فلسفة المصائب |
غالباً ما تمر على الإنسان أيام صعبة، ومصائب، وإخفاقات، وظروف قاسية، والعديد من الأوبئة، والأمراض، والمحن، والأحداث المؤلمة، التي يصعب عليه تفسيرها، وإدراك المغزى منها، فتتولد لديه العديد من الاستفسارات، والأوهام التي قد تزعزع إيمانه؛ نتيجة لعدم فهمه وإدراكه لما يحدث له، أو للعالم من حوله.
أنواع المصائب وكيفية تفسيرها
في هذا المقال سنتحدث عن فلسفة المصيبة في القران، وعن كيفية تفسير المصائب ومعرفة أسبابها، وإدراك المغزى منها باعتبار ذلك جزءًا من الإيمان؛ لأن العبد عندما يفهم على الله سر أقداره، والحكمة منها يكون بذلك قد قطع نصف الطريق إليه، فكلما ارتقى الإنسان في فهم المصيبة والأحداث المؤلمة، كلما ارتقى إيمانه وتَمكن من مواجهة بقية المصائب والمحن برؤية صحيحة، وفهم عميق.
فلسفة المصيبة في القرآن
من جماليات القرآن ذلك المنظور الكلي الذي يتحدث من خلاله عن العالم وتفاصيله، بحيث يجمع في الحديث عن المسألة الواحدة وجودها في عالم الشهادة (الحس) ووجودها في عالم الغيب، فيمنح الأشياء بعدًا أكثر شمولًا وعمقًا من البعد المادي الذي يلاحظه الإنسان بحواسه الخمس، كما أنه يمزج بين المنظور الإلهي للقضية والمنظور البشري لها بمنتهى السلاسة، فلا يتعالى على شعور الإنسان طوال الوقت ولا يتركه في شرنقته المادية طوال الوقت، فهو مثلًا يذكر بأن هناك العديد من المصائب، ويسميها مصائب وشرورًا، طبقًا لمنظور الإنسان نفسه، في حين أن الشر معنى غير موجود بالنسبة للمنظور الإلهي، وإنما هي مجرد أحوال وتغيرات تعزز جانب الهدم في الوجود المخلوق، وهو الجانب المقابل للبناء، بعد أن ركب العالم على هذين القانونين: قانون الهدم وقانون البناء، وطلب من الإنسان أن يعزز قانون البناء وإلا أصابه قانون الهدم!
وضمن هذه الفلسفة تندرج فلسفة القرآن في موضوع المصيبة التي تحل بالإنسان والسطور التالية محاولة لفهم أصول هذه الفلسفة من خلال الربط بين أنواع من الآيات الكريمة التي تتحدث عن موضوع المصيبة:
أولا: المصيبة كسب إنساني
قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ. (الشورى 30).
يلاحظ أن الآية تتحدث عن كسب الأيدي لا عن كسب القلوب، وهي إشارة إلى أن المصائب التي تقع تترتب على أفعال الإنسان العملية لا على أفعاله القلبية كالكفر والنفاق، وهذا يصحح الاعتقاد الشعبي بأن الله يعاقب الكفار بالمصائب لكفرهم، ويعزز مقولة إن حساب الإيمان والكفر في الآخرة لا في الدنيا، أما حساب الإفساد في الأرض فقد يكون بعضه عاجلا (من الطبيعة نفسها نتيجة تدخل الأنسان الذي يفسد تصميمها الفطري فتعود عليه بالمصائب والشرور، مثل صناعة الفيروسات الهجينة أو تطويرها في المعامل البيلوجية).
ثانيا: تحدث المصيبة بسبب إفساد الناس
قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( الروم 41).
هذه الآية تؤكد معنى أن الشر من كسب الإنسان، وتتحدث عن فساد يعم كوكب الأرض (البر والبحر)، وهذا تجسيد للمنظور الكلي الذي يتبعه القرآن دائما بصورة لا نجدها في الكتب الدينية السابقة عليه. فمن اللافت أن تجد حديثًا عن إفساد الإنسان للكوكب قبل 14 قرنا؛ حيث لم يكن نبي الكتاب يعرف شيئا عن البحر فضلا عن معاني إفساد الناس له. اليوم فقط يمكنك أن تفهم معنى إفساد البر والبحر.
ثالثا: المصيبة لا تقع إلا بإذن الله
قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (التغابن 11).
أي أن الله يسمح بالمصيبة إذا وقعت - وإن كان قادراً على منعها - لأنها استحقاق قانوني لصاحبها المفسد؛ لكنه مع ذلك يمنع الكثير من أمثالها - كما تقول الآية السابقة من سورة الشورى - حتى لا يقضى على التجربة البشرية.
رابعا: المصيبة مدونة في كتاب المقادير
قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُصِيبَة فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَن نَبْرَأهَا ۚ إِنَّ ذٰلَك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22).
تأتي هذه الآية لتعزيز المنظور الكلي في القرآن؛ فهو يخبرك مرة عن سبب المصيبة، ومرة عن مصدرها، ومرة عن موقعها من علم الله، ومرة عن موقعها من كتاب الأقدار الكلية وهكذا. وهذا هو المنظور اللائق بكتاب سماوي.
خامسا: المصيبة تقع للكافر والمؤمن
قال تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَفْسك وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا (النساء 79).
هنا تتجلى واقعية القرآن ودقته في آن واحد؛ فالقرآن يميز بين قدرين، قدر الخير وقدر الشر، ويقول إن قدر الخير يأتي من الله، أما قدر الشر فيأتي من الإنسان سواء كان مؤمناً أو كافراً، وهذا يتفق مع منطق الآيات التي تقول إن المصيبة هي ثمرة فساد الإنسان؛ أي ثمرة عبثه بمقادير الطبيعة، فالطبيعة مصممة لخدمة الإنسان لولا أنه يفسد تصميمها الفطري فتعود عليه بالمصائب والشرور. وتصنيع فيروسات هجينة في المعامل البيولوجية هو أحد أشكال إفساد الطبيعة!
سادسا: المصائب إذا وقعت لا تميز بين مذنب وبريء
قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( الأنفال 25).
وهذا يتعارض مع الفهم الشعبي للدين؛ حيث يسود اعتقاد بأن الله ينبغي أن يعاقب المسيء فقط، أو الكافر فقط لعدم تمييزهم بين العقوبات الإلهية المرصودة لأقوام محددين، وبين المصائب العامة الناتجة عن إفساد الطبيعة أو الوقوع في الفتنة. والفتنة كما قلت في مقالات سابقة هي المعنى الجامع لأشكال القهر وانعدام الحقوق والحريات، ومناصرة الباطل. (1)
ما هو الفرق بين الابتلاء والعقاب؟
كثير من الناس يواجهون العديد من الأحداث والمصائب والمحن والأحداث المؤلمة ولا يستطيعون معرفة ما إن كانت هذه المصائب والمحن عقوبة أم ابتلاء من الله، ولكي نعرف الفرق بين الابتلاء والعقوبة يجب أن ننظر إلى هذه المسألة من ثلاثة جوانب وهي:
1. أن نفرق بين حال المؤمن وحال الكافر في الدنيا
المؤمن لابد له من الابتلاء في هذه الحياة، لأنه مؤمن بالله مقيماً وملتزماً بما شرع الله له وحرم عليه، والمؤمن معرض للفتنة والابتلاء من أجل اختبار إيمانه بالله تعالى، قال تعالى (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون).
2. أنه لا انفصال بين الجزاء في الدنيا والجزاء في الآخرة
فما يقع على المؤمن من البلاء والمصائب في الدنيا، فهو بما كسبت يديه من جهة، وبحسب منازلهم عند الله في الدار الآخرة من جهة ثانية. فمنهم من يُجزى بكل ما اكتسب من الذنوب في هذه الدنيا، حتى يلقى الله يوم القيامة وليس عليه خطيئة. وهذا أرفع منزلة ممن يلقى الله بذنوبه وخطاياه، ولهذا اشتد البلاء على الأنبياء ثم الصالحين ثم الأمثل؛ لأنهم أكرم على الله من غيرهم، ومن كان دون ذلك فجزاؤه بما كسبت يداه.
وليس الكفار كذلك؛ فإنهم (ليس لهم في الآخرة إلا النار)، فليس هناك أجور تُضاعف ولا درجات تُرفع، ولا سيئات تُكفّر. ومقتضى الحكمة الإلهية أن لا يدّخر الله لهم في الآخرة عملًا صالحًا، بل ما كان لهم من عمل خير، وما قدّموا من نفع للخلق يجزون ويكافئون به في الدنيا، بأن يخفف عنهم من بلائها وأمراضها. وبالتالي لا يمن عليهم ولا يبتليهم بهذا النوع من المصائب والابتلاءات.
فما يصيب المؤمنين ليس قدرًا زائدًا على ما كسبته أيديهم، بل هو ما كسبوه أو بعضه، عُجل لهم، لما لهم من القدر والمنزلة عند الله.
3. أن نعلم علم اليقين أن أي عمل نافع تقوم به أي جماعة أو أمة، فإنها لا بد من أن تلقى جزاءه في الدنيا
وهذا شيء اقتضته حكمة الله، وجرت به سنته، ولهذا صح من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا يظلم مؤمنًا حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيُطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها). (2)
- الخلاصة:
إنه لا يكون بلاء ومصيبة إلا بسبب ذنب، ولا يرفع إلا بتوبة، وأن المؤمنين يجزون بحسناتهم في الدنيا والآخرة، ويُزاد في بلائهم في الدنيا ليكفر الله عنهم من خطاياهم التي يرتكبونها، فلا يُعاقبون عليها في الآخرة.
فأقدار الله تكون إما ابتلاء أو تمحيص وتطهير في حال كان الشخص مؤمناً بالله، فمن حب الله لعبده تطهيره من الذنوب في الدنيا قبل الآخرة، روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه، وولده، وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)، رواه الترمذي (2399) وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2280).
وأما الكفار فيُجزون بحسناتهم كلها في الدنيا، فيكون ما يستمتعون به في دنياهم من نِعم هو مقابل ما يكون لهم من حسنات وليس لهم في الآخرة من خلاق.