بين الدين والفلسفة والعلم .. ما معنى الحياة؟
معنى الحياة |
يولد الإنسان في هذا العالم وبمرور الأيام والسنين ومع نمو إدراكه، وتعرضه للمعاناة وللكثير من الاضطرابات النفسية، والمشاكل، وفي ظل ذلك الروتين اليومي الممل، يقف ليسأل نفسه عن معنى الحياة، وما الفائدة من كل تلك الأعمال والمهام الروتينية التي يقوم بها؟
وماهو الإطار العام للحياة الذي تبدو من خلاله هذه الأعمال معقولة وذات مغزى؟ ولماذا لا يشعر المرء بالحياة لمجرد تواجده في بيت يوفر له المأكل والأمان؟ لماذا كل هذا لا معنى له ومجرد خواء أو فراغ؟
في هذا المقال سوف نتحدث عن معنى الحياة على مستوى البشرية بشكل عام، وعلى مستوى الفرد، وعن الكيفية التي يمكن للشخص أن يكتشف بها رسالته ومعناه الحقيقي في الحياة من خلال وجهات نظر علمية مختلفة، وذلك لكونها تمثّل مدخلًا رئيسيًا لمناقشة أزمة الذات المعاصرة، والاكتئاب الوجودي، والشعور بالفراغ، والركود، وفقدان الدافع النفسي والافتقار للهدف.
ربما تكون قد بحثت لسنوات، ولكنك لم تجد شيئًا مناسبًا تمامًا، أو بدا لك صحيحًا. أو ربما شعرت بأنك عالق تمامًا ومرهقًا ومكتئبًا تواجه العديد من مسائل الحياة وأسئلتها الأساسية، لماذا أتيت إلى هذا العالم؟ وماذا يجب علي أن أعمل؟ وإلى أين المصير؟ وما هي رسالتي في الحياة؟ إذا كان وجودي ينتهي بالموت، فلماذا أعيش؟ هل يوجد في الحياة ما يسوّغ الاستمرار فيها؟
وغالبًا ما تكون هذه الأسئلة في أوقات المعاناة، أو اليأس، أو الشعور بالفراغ الروحي والتعاسة، أو الاكتئاب الوجودي، أو التعرض للظلم، ورؤية وقائع الحياة المؤلمة التي لا يمكن تحملها. ومهما تجاهلت تلك الأفكار والأسئلة، أو حاولت أن تبتكر لها إجابات مقنعة من وجهة نظرك؛ فإنك ستقف حائرًا أمام النهاية الحتمية التي سوف تواجهها نهاية حياتك وهي الموت الذي سينهي علاقتك بكل ما لديك. إن الحياة قد تبدو مختلّة بعمق؛ فهل هناك معنى لكل هذا؟
ما معنى الحياة.
كانت وما زالت إحدى أكبر التساؤلات التي انشغل بها الإنسان على مر التاريخ هو معنى الحياة، أو المغزى من الوجود، سواءً على مستوى الجماعة، أو على مستوى الفرد، حيث أصبحت هناك الكثير من الإجابات المقترحة على هذه الأسئلة مقدّمة من ثقافات وأيديولوجيات ومعتقدات مختلفة، حيث كان لـ سؤال "معنى الحياة" دور كبير في وضع وترسيخ المفاهيم والرؤى العقائدية والفلسفية على مرّ التاريخ الإنساني. ثم تطوّر الوعي البشري واتسعت رقعة استيعابه لمفاهيم رمزية مثل العلاقة بغيره وفكرة بناء المجتمع، وتحقيق السعادة، والقيم والمُثل العليا، والأخلاق، وقضايا أخرى مثل الخير والشر، والقدر والإرادة الحرة، وموضوع وجود إله واحد، أو عدد من الآلهة، وغيرها من التفسيرات الميتافزيقية لسؤال معنى الحياة، إلى أن ساهم العلم وقدّم تفسيرات للظواهر التي طالما حيرتنا، وكشف عن حقائق كثيرة متعلقة بالحياة والإنسان والكون.
إنّ تساؤل الإنسان حول معنى الحياة والتأمل فيه لهو نشاط مهم، فالحياة تملك معنىً جوهريًا بالفعل، جُلّ ما نحتاجه هو القليل من الفهم والتَفكّر بعقلانية، والنظر لتجاربنا السابقة، واستنباط مفهوم واضح لمعنى الحياة من وجهات نظر مختلفة.
- المعنى الفلسفي للحياة.
أخذ مفهوم معنى الحياة طرق ومسارات مختلفة ومتأرجحة بين آراء الفلاسفة على مرّ التاريخ، بدايةً من "أفلاطون" الذي رأى بأنّ معنى الحياة يتمثّل في الوصول لأعلى شكلٍ من أشكال المعرفة، وذلك يحقّق الخير بالضرورة، وتلك كانت أكثر الرُؤى مثالية، وصولًا إلى "نيتشة" الذي قال: إنّ الأفضل لنا أن نتمسك بالفن لئلّا نتعرض للفناء جرّاء قبح الحياة وانعدام معناها، وتلك كانت أكثر الرُّؤًى تشاؤمية.
أما الفيلسوف "لوك فيري" الذي طرح الحبّ باعتباره الإجابة التي توفر المعنى والحياة الطيبة للإنسان المعاصر، الحب ليس بوصفه ارتباط عاطفي فقط، بل علاقة روحانية متعالية ومقدسة فـ "الحب يفرض نفسه بوصفه بعدًا من أبعاد المطلق والمقدس في صميم وجودنا بالذات، والدليل على ذلك أننا مستعدون لكل شيء من أجل من نحب"
ولكن هناك إخفاقات عمليّة واجهت "أطروحة الحب" التي طرحها فيري حيث تركزت في أمرين هما:
- الانكشاف الوجداني
وذلك من خلال تجريد الإنسان من كل الإمكانات الروحية، والنفسية، والاجتماعية، وتعريض روحه العارية للمخاطر والآلام وعذابات مواجهة الشرّ بكافة أشكاله المروّعة، وغير العقلانية؛ كالموت، والكوارث، والإخفاقات العاطفية، والأحزان، والخيانات.
- أزمة دوام الحياة وتهديدات الفناء.
إن الفناء الذي يواجه هذه العلاقة "المقدسة" له وجه آخر، أقسى وأبعد ألمًا، وهو الفناء بالموت والفقد.
فعلى فرض التسليم بفعالية هذه الأطروحة وإيفاءها بوعودها في إنقاذ المعنى، وتوفير الحياة الطيبة، إلا أن حتمية الانفصال بالموت وفقد الحبيب، تهدم ما بقي من عقلانيتها؛ لأن هذا الفقد في ظل أوهامها الملحدة ليس فقدًا مؤقتًا، بل فقدًا مطلقًا عبثيًا لا رجعة فيه، وهكذا يمكن بسهولة ملاحظة هذه المجازفة المخيفة بالكينونة الروحية. ما يقترحه فيري أمام هذه المعضلة مثير للسخرية والشفقة في آن واحد، فهو يرى أن على الإنسان أن ينمّي في نفسه - بهدوء وبدون أوهام - نوعًا من "حكمة الحب"، وأن يحبّ وهو يفكر كل يوم في الموت، من أجل البحث عما ينبغي القيام به، هنا والآن، وبكل فرح.
إن السبب الرئيسي لفشل محاولات بناء المعنى في حياة الإنسان المعاصر هو الإخفاق المتكرر في بناء سردية مكتملة ومعقولة، تتسم بالاتساق والامتداد الزمني، على الصعيد التاريخي والشخصي، وذلك نتيجة المبالغة في التمركز حول الإنسان والانقطاع الروحي ورفض التقاليد والعقائد، فيتقلص تفكير الإنسان في نفسه لينحصر في صيغة مكانية لا زمانية، وينغرس وجوده الباطني في أبعاد الوجود المرئية، مما يؤدي إلى فقدان العلاقة الوجودية الأصيلة بالنفس، وفقدان العلاقة الأصيلة بالآخرين، وعدم وجود معنى للحياة.
بالنظر إلى عدم وجود طريقة أخرى لتفسير سؤال معنى الحياة، يستنتج العديد من الفلاسفة أن السؤال بحد ذاته متهافت. فهم عندما يتكلمون عن وجود معنى في الحياة، فإنهم يقصدون معنى الحياة الفردية، أي مسألة ما إذا كانت هذه الحياة أو تلك ذات معنى بالنسبة إلى الشخص الذي يعيشها. (1)
- معنى الحياة من وجهة نظر دينية.
وجهات النظر الدينية حول معنى الحياة هي تلك الأيديولوجيات التي تفسر الحياة من حيث غرض ضمني غير محدد من قبل البشر. وفقًا لـ [ميثاق التراحم]، الذي وقعت عليه العديد من المنظمات الدينية والعلمانية الرائدة في العالم، فإن جوهر الدين هو القاعدة الذهبية "لمعاملة الآخرين كما لو كانوا يعاملونك".
قد يبدوا هذا صحيحيًا ولكن معنى الحياة يجب أن يكون حقيقة جوهرية عن العالم تستطيع أن تفسّر من خلالها حتى أسوأ الأمور بشكل مقبول. بحيث يكون شيئا يمكن لنا أن نعرفه عن الحياة، والكون وكل شيء، ويجب أن يعطينا بعض الاطمئنان عن أمور مثل الموت والخسارة والمعاناة والظلم. إن معرفة مثل هذه الحقيقة سوف تجعله من غير العقلاني أن لا نحب الحياة كما هي بعدها، وأن لا نقبل الأشياء كما هي. وسوف تظهر لنا أن أمورًا مثل اليأس، أو القلق، أو القنوط هي ردّات فعل خاطئة.
فكرة أن الحياة لها معنى هي فكرة أن هناك حقيقة وراءها من نوع غير عادي. سواءً كان ذلك صحيحًا أم لا، فإن الفكرة هذه ليست لغوًا. إنها تعكس الأمل الذي تحتوي عليه كل الأديان الإبراهيمية. بغض النظر عن محتوى هذه الأديان، فإنها تقدّم صورًا ميتافيزيقية يعطي قبولها للمرء أملًا بالخلاص، وقبولًا للعلل والشر الظاهر في الحياة. حتى لو ادعى البعض بأن الأديان لم تقدّم الحقيقة، وتدعي أن لديها معنى الحياة، فإنها تعكس الاقتناع بأن هناك حقيقة ومعنى، مهما كان من الصعب فهمها أو التعبير عنها.
إن “معنى الحياة” في الشرع إنما يتحقق بتصحيح القصد، والإيمان بالرسالة، وضبط بوصلة على القلب على جهة العلو، طاعةً ومحبةً وإخلاصًا وتوحيدًا لله.
أما أن تتصالح مع طبيعة الحياة من خلال التأمل والصفاء، أو من خلال العلاج النفسي، فأن هذا لا يعني اكتشاف معنى الحياة، لأنه لا يقصد اكتشاف أي حقيقة من هذا النوع. فـ الملحد الذي لا يؤمن لا بالله ولا باليوم الآخر يكتفي بالقول: لا معنى للحياة إلاّ في البحث عن السعادة في هذه الدنيا، ولا فائدة من التفكير في ما سيحصل للإنسان بعد الموت. هذا الجواب لا يُقنِع المؤمن الذي يُدرِك أنّ الإنسان بما وُهِب من عقل وروح يختلف عن الحيوان الذي يعود إلى العدم بعد موته. وهذا ما يميّزه عن الحيوان ويجعله يشعر في أعماق ذاته بأنّه خُلِق لشيء أعظم من هذه الحياة.
النفس البشرية لن تعثر على المعنى ولن تحقق الطمأنينة الداخلية في ظل تهديد الفقد وقرب الموت، إلا إذا آمنت باجتماع ثلاثة شروط أساسية وهي:
- أن لا يكون الموت هو النهاية.
- أن تستمر الهوية الشخصية بعد الموت.
- أن يكون من المأمول أن تستمر حياتنا الأخرى بعد الموت في ظل ظروف سعيدة بل سعيدة جدًا.
وهي شروط توفرها المسيحية والإسلام، ولا يمكن منافستها في هذا الشأن، ولذا لا يجد اللاديني لوك فيري غضاضةً من تأكيد أن الإنسانوية الأرضية لا تساوي شيئًا فيما يخص التعويض الأخروي ولقاء الأحباب بعد الموت، ويقول: "لا شيء يمكنه منافسة المسيحية على مستوى التجربة الأولى، ولكن بشرط أن نكون مؤمنين! ".
عندما تؤمن المدرسة الوجوديّة بالعبثيّة، وعندما ترفع شعارًا يقول: "لا شيء له معنى إلا الموت"، فإنّها تكون قد عبّرت بوضوح عن الحقيقة التي يهرب من مواجهتها الماديّون، لأنّ هذه النتيجة لا بد أن يصل إليها كل من أنكر اليوم الآخر؛ فعظمة الكون، وإبداع الخلق، والهدفيّة المتجليّة في كل صغير وكبير من هذا الوجود، كل ذلك يفقد معناه عندما نعتبر أنّ الدنيا هي نهاية المطاف. إذا كان وجودي ينتهي بالموت، فلماذا أعيش؟ هل يوجد في الحياة الدنيا ما يسوّغ الاستمرار فيها؟ وماذا يعنى التزامنا بالمبادئ والقيم، وماذا يبقى من سلطة الإلزام إذا ما أقصينا الدين؟ وما مدى منطقية القول: هذا يجوز، وهذا لا يجوز؟ نعم فبإمكانك أن تشكك في كل القيم، ويمكنك أن ترفض كل شيء، ويمكنك أن تفعل ما تشاء، لأنّ الدنيا هي نهاية المطاف. نعم سيكتشف الناس أنّ إنكار اليوم الآخر يُفرغ الحياة الدنيا من معناها، وعندها لا بدّ أن تكون السيادة للفلسفة العبثيّة، وعندها سيكون الانتحار هو الشجاعة التي تستند إلى العقل والمنطق، وسيكون الاستمرار هو الغباء الذي يورث الجبن والتردد. حتى الآخرة تفقد معناها عندما يكون لها نهاية. من هنا كان الخلود من أكبر حقائق اليوم الآخر، بل إنّ الرغبة الملحّة لدى الإنسان في البقاء والاستمرار لهي من أوضح حقائق النفس البشريّة، وكأنّه لا يصلح لعالم الخلود إلا من رُكّب فيه الميل إلى الخلود. وقد جاء الدين منسجمًا مع حقائق الخلق، فكانت الآخرة من حقائق الوجود، وكان الخلود من حقائق الآخرة. وهنا يتحقق الانسجام الكامل في كلّ شيء، وبذلك تظهر الفلسفة الماديّة كعارض مرضي، وشذوذ تأباه البشريّة، لأنه يتناقض مع فطرتها السليمة.
- معنى الحياة من وجهة نظر البحث العلمي.
معنى الحياة من وجهة نظر البحوث العلمية هو "البقاء على قيد الحياة والتكاثر وتوريث الجينات الوراثية، للحفاظ على المسار التطوّري الخاص به"،
فقد صرّح العلماء بأنّ الحياة قد نشأت على الأرض منذ مئات ملايين السنين من تفاعلات عشوائية للمكونات الكيميائية والغازات، وطبقًا لحقيقة الانتخاب الطبيعي للكائنات الحية؛ فقد تطوّرت كائنات من أسلافها التي عاشت قديمًا، ومنها بلا شكّ الإنسان، نظريات العلم الحديث تضع الإنسان موضع الدراسة من جانب ماديّ فتصنّفه كنوع يسمّى بـ (Homo sapiens) من فصيلة القردة العليا رتبة الرئيسيات في مملكة الحيوان. تلك الحقائق الجافّة قدّمت معنىً للحياة بالفعل، لكنه معنى من نوع سوداوي وقاسٍ ومنزوع الروحانية، بالإضافة إلى أنه عامّ يشمل كلّ الكائنات الحية، فالإنسان – كغيره من الكائنات الحية كالأميبا مثلًا – المعنى من وجوده هو البقاء على قيد الحياة والتكاثر وتوريث الجينات الوراثية، للحفاظ على المسار التطوّري الخاص به، رغم صحة ذلك المعنى لكنّه عديم الجدوى، بالإضافة لقسوته وخلوه من الروحانية.
- معنى الحياة على مستوى الفرد.
هل سألت نفسك يومًا لماذا لا يشعر المرء بالحياة لمجرد تواجده في بيت يوفر له المأكل والأمان وكل سبل الراحة، لماذا كل هذا لا معنى له ومجرد خواء وفراغ للإنسان؟ والإجابة وفق لما يعتقده رويس في كتابه "فلسفة الولاء"، أننا جميعًا نسعى للحياة من أجل سبب ما خارج أنفسنا؛ قد يكون سببًا كبيرًا مثل "العائلة، الوطن، المبادئ، القيم، العقيدة"، أو سببًا صغيرًا "كمشروع ما، أو تحمل مسؤولية"، وسمى رويس تلك الحالة بحالة الولاء.
إن أكثر ما يلفت الانتباه في الكثير من الأبحاث والفلسفات، هو ما معناه بأن الإنسان يحتاج إلى أكثر من "الأكل والشرب" ليشعر بالحياة.
- المعنى الحقيقي للحياة.
إن الجواب عن معنى الحياة تعطيه الفلسفة التي ترتكز على العقل البشريّ، كما تُعطيه الأديان التي ترتكز على الوحي الإلهيّ. ويأتي متنوّعًا بتنوّع الفلسفات وتنوّع الأديان، التي تؤمن على وجه العموم بأنّ ثمّة استمرارًا، ولو بوجه جديد، لحياة الإنسان بعد الموت.
"في مطلع القرن العشرين ظهرت نظرية علمية منافسة، كان من ألمع روادها أينشتاين، وهايزنبرغ، وبور، وغيرهم. وقد أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية، والكوزمولوجيا في هذا القرن على أن المادة ليست أزلية، وأن الكون في تطور وتمدد مستمرين، فدعوا إلى الإيمان بعقل أزلي الوجود يدبر هذا الكون ويرعى شئونه.
ثم جاء جيل آخر من العلماء المتخصصين في مبحث الأعصاب من أمثال شرينغتون، وأكلس، وسبري، فـ خلصوا بعد بحوث مضنية إلى أن الإنسان مكون من عنصرين جوهريين هما: جسدٌ فانٍ وروحٍ باقية لا ينالها الفناء، وأن الإدراك والتفكير ليس من صنع المادة، بل يؤثران تأثيرًا مباشرًا في العمليات الفسيولوجية ذاتها.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية ظهرت حركة جديدة في علم النفس، اعترف روادها بالعقل، ورفضوا تفسير السلوك البشري بلغة الدوافع والغرائز الحيوانية، وآمنوا – بدلًا من ذلك – بالقيم الأخلاقية الجمالية، والجوانب الروحية والفكرية والنفسية". (2)
فالإنسان كائن مركب من جزئين، جزء رباني متمثل في الروح، وجزء مادي يتمثل في الجسد، يتطلع الأول إلى العلو والسمو، ويحاول الثاني أن يشبع رغباته ومتطلباته المادية.
من هذه الثنائية التركيبية يتولد الصراع، ومن هذه الهشاشة التكوينية يتولد الخلل.
إن السر الوحيد لتحقيق السعادة والسلام الداخلي، والتخلص من الاكتئاب الوجودي هو تحقيق عملية التوازن بين الجانب المادي والجانب الروحي؛ وذلك من خلال معرفة وإدراك معنى الحياة، والغرض من الوجود في هذه الحياة، والنضوج على جميع المستويات الجسدية والعقلية والعاطفية والروحية وتحقيق التوازن بين كل تلك المستويات.
ولكن كيف تتمكن من معرفة وإدراك الفرق بين معنى الحياة والغرض منها؟
إليك كيفية التمييز بين الاثنين:
- معنى الحياة مصدره العقل إنه فلسفة أو فكرة أو معتقد ننسبه إلى حياتنا. إنه إحساس بالهدف، وشيء نقوم بإنشائه نحن. فالمعنى يأتي من العقل ويعتمد على ذوقك، ورغباتك، وأهدافك، وأحلامك الشخصية، المعنى شخصي ومتنوع للغاية ويختلف من شخص لآخر، فقد يكون معنى الحياة بالنسبة لشخص ما تربية أطفال، وقد يكون لآخر إنشاء مؤسسة خيرية، أوتربية الخيول، أو أن يصبح كاتبًا أو عالمًا مشهورًا، وما إلى ذلك من طموحات وأحلام تساهم في خدمة الإنسانية.
- أما الغرض من الحياة مصدره الروح وهو فطري ومبرمج في كل شيء على المستوى الأساسي. الغرض من الحياة أو الغرض من الوجود يعتمد على تنمية الروح والسمو بها من خلال التدين وممارسة الروحانية، والشعائر الدينية. بعبارة أخرى، إنه شيء ندركه أو نتناغم معه؛ لأنه موجود بالفعل فكل مولود يولد على الفطرة، فهو بالفعل جوهري وفطري.
ونظرًا لأن الغرض الروحي للحياة غير مادي، فهو أكثر انفتاحًا على التفسير. وهذا هو السبب الرئيسي لوجود الآلاف من الحركات الروحية والأفكار الدينية في العالم.
- كيف تجد معناك في الحياة؟
تزداد وحشة الحياة لدينا عندما لا نجد شيء يربطنا بها، سيخف كثير من قلقك الوجودي لو تغيرت حياتك واقعيًّا، معنى الحياة ليس شئيًا نظريًّا يُعطى لك مسبقًا، بل شئيًا عمليًّا يبنى بالتدريج، الدراسة، العمل، الأصدقاء، الحب، وهكذا،
فكر في نوع المعنى الذي تحتاجه الآن بعد أن قمنا بشرح مجموعة من أكبر النظريات وأطر المعنى الفلسفية، والدينية، وعلم النفس. يجب أن تكون قادرًا على الإجابة على سؤال معنى الحياة الخاص بك.
ستجد بأن معنى الحياة شخصي للغاية وأنك الشخص الوحيد الذي يستطيع تحديد المعنى الحقيقي لحياتك.
الشيء المهم الذي يجب أن تستخلصه من مناقشة التجارب ذات المغزى هو أن تعريف "المعنى" يمكن أن يختلف اختلافًا كبيرًا من شخص لآخر.
كتب الطبيب النفسي النمساوي والناجي من المحرقة فيكتور فرانكل ذات مرة عن المعنى: "لأن معنى الحياة يختلف من إنسان لآخر ومن يوم لآخر ومن ساعة لأخرى. ما يهم إذن، ليس معنى الحياة بشكل عام ولكن بالأحرى المعنى المحدد لحياة الشخص في لحظة معينة".
كما أشار فرانكل، بأن المعنى ليس شيئًا واحدًا ومحددًا، ولكنه مختلف وقابل للتغيير.
من خلال تجارب الحياة المختلفة فإن هناك ثلاثة أنواع من المعنى في الحياة وهي:
- المعنى في الإنجازات وتحقيق الأهداف والأحلام.
- المعنى في المبادئ والقيم (مثل الحب والصداقة والمجتمع والولاء والشجاعة).
- المعنى في المعاناة.
حيث نتبنى نوعًا من المواقف لتبرير الظروف المؤلمة التي نعيشها، أو ننشئ اعتقاد حول سبب تجربتنا لشيء ما.
ربما تكون قد وصلت إلى هذه المقالة تريد إجابة قاطعة على سؤال "ما معنى الحياة؟ " ولكن الشيء المهم هو أن معناك هو من يصنعك، معناك ينبع من أعماق قلبك وروحك، معناك يحتاج إلى اكتشاف نفسك وسبر أغوارها ومعرفة نقاط القوة والضعف لديك، واكتشاف مواهبك ومهاراتك.
لا يجب أن تشعر بالقلق أو الإحباط عندما يستغرق الأمر سنوات للعثور على ما تريد تحقيقه، أو سنوات لفهم وإدراك رسالتك في الحياة.
ستجد معناك في الوقت المناسب. وتذكر بأن معانيك يمكن أن تظل كما هي، وقد تتغير مع نضوجك.
لأنك وبمرور الأيام والسنين ستكتشف معنى وجودك، ستكتشف بعد حين حقيقة الحياة، وحقيقة نفسك وحقيقة كل ما يدور حولك. ستكتشف كينونتك وتفاصيل يومك، عندها فقط سَتُدرك بأن الحياة ما هي إلا مرحلة ابتلاء واختبار، سَتُدرك بأنها رحلة روحية ومغامرة رائعة لروحك التي اختارت أن تخوض تجربتها.
سَتُدرك بأنك فقدت بوصلتك وتوقفت بمحطات كثيرة لم يكن لها أيُ داعي؛ هذه المحطات ما هي إلا وهم صنعها خيالك وعقلك الباطن ضخمها لك!
لذا كن واعيًا بتفاصيل يومك، وبكل ما يدور حولك، لا تنشغل بأشياء لست بحاجة إليها، ولا تدخل نفسك في متاهات قد ترهق قلبك.
استمع لصوت ضميرك المنبعث من أعماق روحك والذي يدعوك لنشر الحب والسلام، يدعوك للعيش بسيطًا مُتواضعًا، رحيمًا ومتسامحًا!
_______
(1): كتاب معنى الحياة في العالم الحديث - عبدالله الوهيبي.
(2): كتاب العلم في منظوره الجديد – سلسلة عالم المعرفة.
lonerwolf , aeon ,