مفهوم الذات الإيجابي
مفهوم الذات |
حاول الفلاسفة وعلماء النفس منذ القدم تعريف الذات وصياغة مفهوم خاص بها ومناقشة العديد من الأمور المتعلقة بالذات منها الهوية الذاتية، واحترام الذات وتطويرها، لما لها من دور كبير في تفسير سلوك الفرد اليومي، وتحفيزه وتنظيم سلوكه.
في هذا المقال، سنتحدث عن أهمية مفهوم الذات، وعن مكوناته، وعن القوى والعوامل المؤثرة في تكوين مفهوم الذات لديك، وعن الكيفية التي يمكنك من خلالها إدراك ذاتك الحقيقية وتحسين مفهومك الذاتي.
مفهوم الذات في علم النفس.
الذات مفهوم فلسفي نفسي يدل على مجموعة من التصورات والأفكار والمعتقدات التي يحملها الشخص عن نفسه.
بعبارة أخرى، فإن الذات هي فهم الشخص وإدراكه لنفسه بناء على تجاربه الشخصية وأفكاره والصورة الذهنية التي يرى بها نفسه. حيث يُبنى هذا التصور على المعلومات التي تم جمعها من خبرات الماضي وتصورات الحاضر وأفكار المستقبل حول قيم الشخص، وأهدافه، ومهاراته، وقدراته والأدوار التي قام بها. فهو عبارة عن حصيلة لـ تجارب الشخص للظواهر المختلفة التي تشكل إدراكه، وعواطفه، وأفكاره، بمعنى أن أفكار ومشاعر ومدركات الشخص عن نفسه هي ذاته.
مفهومك لذاتك هو مجموعة من المعتقدات التي لديك حول طبيعتك وصفاتك وسلوكك. يتعلق الأمر بكيفية تفكيرك وتقييمك لنفسك في أي لحظة من الزمن.
ولكي نفهم حقًا ما هو مفهوم الذات وأهميته وتأثيره على حياتنا، نحتاج أولًا إلى تفصيل المكونات الثلاثة لمفهوم الذات.
مكونات مفهوم الذات حسب كارل روجرز.
يعتقد عالم النفس الإنساني كارل روجرز أن مفهومك لذاتك يتكون من ثلاثة أجزاء مختلفة وهي:
1- الذات المثالية.
ذاتك المثالية هي الشخصية التي تتخيلها عن نفسك وتريد أن تكون عليها في المستقبل.
أحيانًا قد لا يكون هناك تطابق بين الكيفية التي يرى الشخص بها نفسه، والكيفية التي يرغب في أن يكون عليها تمامًا. وهذا بالضبط ما يسبب المشاكل ويؤدي غالبًا إلى أنماط سلوك تخريب الذات والصراعات العاطفية.
2- الصورة الذاتية.
صورتك الذاتية هي الكيفية التي ترى بها نفسك، بما في ذلك سماتك الجسدية والشخصية وأدوارك الاجتماعية.
ولكن من المهم ملاحظة أن صورتك الذاتية لا تستند بالضرورة إلى الواقع، فقد يكون لديك اعتقاد عن نفسك غير صحيح وبعيد كل البعد عن الحقيقة.
لذا من المهم جدًا أن تدرك أن صورتك الذاتية هي مجرد إدراكك لنفسك وليس لها أساس حقيقي في الواقع، فهي غير ثابتة وتتغير من وقت لآخر؛ لأنها حساسة وضعيفة وتتأثر بكل ما يمر في حياتك.
3- تقدير الذات.
تقديرك لذاتك هو مدى تقبلك وحبك لذاتك وتعاطفك معها، بعبارة أخرى فإن تقدير الذات هو مدى إعجابك بنفسك، أو موافقتك عليها، أو إلى أي مدى تقدر نفسك.
يمكن أن يتأثر تقدير الذات بعدد من العوامل بما في ذلك الكيفية التي تعتقد أن يراك بها الآخرون، والكيفية التي تعتقدها عن نفسك عند مقارنتها بالآخرين، وكذلك دورك في المجتمع.
على سبيل المثال، عندما تكون لديك صورة سلبية عن نفسك، فأنت تعاني من تدني احترام الذات، حيث يتجلى ذلك غالبًا في انعدام الثقة والتشاؤم.
من ناحية أخرى، عندما يكون لديك نظرة إيجابية عن نفسك، فأنت تتمتع بتقدير كبير لذاتك، حيث يتجلى هذا غالبًا في التصرف الواثق وقبول الذات والتفاؤل.
القوى والعوامل المؤثرة على مفهومك لذاتك.
هناك مجموعة من القوى والعوامل التي تُشكل مفهومك الذاتي، وبالتالي تؤثر على صحته وحيويته بمرور الوقت. تأتي بعض هذه القوى من مصادر داخلية، وخارجية أيضًا.
تتضمن المصادر الداخلية عقليتك التي تفكر بها والفكرة التي رسمتها عن نفسك وعن الآخرين، واهتماماتك وطريقة تفكيرك وتفسيرك لأحداث وظروف حياتك، والكيفية التي تعيد بها صياغة كل من النجاح والفشل.
أما المصادر الخارجية البيئة تشمل الأمور التي تهتم بها والأماكن التي تقضي معظم وقتك فيها، وكذلك تفاعلاتك مع الآخرين، والكيفية التي يميل الآخرون إلى تصنيفك بها.
أهم شيء يجب عليك ملاحظته هنا هو كيفية تأثير الآخرين على مفهومك لذاتك.
من خلال الرفض، والحكم، والسخرية، والنقد، غالبًا ما يؤثر الأشخاص الآخرون على شعورك تجاه نفسك، والتسميات التي تطلقها على نفسك، والأساس في ما تؤمن به عن نفسك، وعن قدراتك الخاصة، وعن العالم من حولك.
من نواح كثيرة، ترتبط قيمتك الذاتية بالأشخاص الموجودين في حياتك. لذلك، إذا كنت تكافح مع مفهوم ذاتي سلبي غير صحي، فقد يكون ذلك نتيجة مباشرة لـ تفاعلاتك مع الآخرين.
النبأ السيئ هو أن كل هذه المصادر الداخلية والخارجية لها تأثير عميق جدًا على مفهومك لذاتك. ولكن الخبر السار هو أنه يمكنك البدء في اتخاذ إجراءات إيجابية واستباقية لتحسين مفهومك الذاتي وتحسين الطريقة التي تعيش بها حياتك.
كيفية إدراك ذاتك الحقيقية وتحسين مفهومك الذاتي.
عملية تحسين وتحويل مفهومك الذاتي ليس أمرًا سهلًا. في الواقع، سوف يستغرق الأمر منك قدرًا كبيرًا من الصبر والوقت والجهد، ولكن بالرغم من أن هذه الرحلة والتحول الحتمي لن يكونا سهلين أبدًا، إلا أنهما يستحقان التضحية بالوقت وبذل المزيد من الجهد؛ لأن النتائج التي ستحصل عليها من عملية التحول هذه مجزية وتستحق أكثر من ذلك، لأنها ستُحدث تغيير كبير جدًا في حياتك، حيث ستمكنك من إدراك ذاتك الحقيقية التي قد تكون لا تعرف عنها شيء سوى مجموعة من المعتقدات والقناعات التي تم برمجة عقلك بها مسبقًا من خلال تفاعلك مع ما يحيط بك.
لن تكون تحت رحمة وجهة نظرك الوردية للواقع. بدلًا من ذلك، ستكون قد سيطرت على حياتك. ومع السيطرة تأتي الثقة، وبالثقة تأتي القوة الشخصية والقدرة على تغيير حياتك.
خلال هذه الرحلة، سوف تحتاج إلى التخلص من العادات السلبية القديمة، والحد من المعتقدات الخاطئة، والتأكد من صحة القناعات الذهنية، والأفكار غير المفيدة.
ستحتاج بشكل أساسي إلى التساؤل عن قيمة الطريقة التي تعيش بها حياتك، والتي تتضمن الخيارات والقرارات التي كنت تتخذها في الماضي.
إذا كانت تلك الخيارات والقرارات التي تتخذها لا تمكنك من تحقيق الشعور بالأمان والوصول إلى منطقة الراحة الخاصة بك وتدفعك نحو تحقيق أهدافك، فإن التفكير في تغيير حياتك شيء مهم وضروري لتحقيق النجاح في حياتك.
ولكن قبل المضي قدمًا نحو التغيير، من المهم ملاحظة أن جودة حياتك هي انعكاس مباشر لحالتك الذهنية العاطفية. ما يعنيه هذا هو أنه عندما تكون عواطفك صحية وتخدم مصلحتك العظيمة، فإن نوعية حياتك ستتحسن أيضًا.
تتحسن حياتك لأن الحياة تنحصر دائمًا في التجارب العاطفية التي نختار الانغماس فيها.
عندما تكون تجاربنا العاطفية ذات طبيعة صحية وإيجابية، فهذا يحسن من جودة أفكارنا. وكلما تحسنت أفكارنا، زادت خياراتنا، وقراراتنا، وسلوكياتنا، وقدرتنا على التحكم في ردود أفعالنا تجاه ما يحدث معنا.
عندما تتخذ خيارات أفضل، تحصل على نتائج أفضل. ومع النتائج المُحسنة، سوف تشعر بتحسن لا يقاس عن نفسك. وعندما تشعر بتحسن تجاه نفسك، يزداد وعيك ومفهومك لذاتك بشكل أقوى.
هذا هو الجوهر والمفتاح الذي سوف يساعدك على تحويل مفهوم الذات السيئ والغير صحي لديك إلى شيء يمكن أن يساعدك على تحقيق أهدافك وتحسين الطريقة التي ستعيش بها بقية حياتك.
فيما يلي خطوتين سوف تساعدك على إدراك ذاتك الحقيقية والبدء في التغيير وتحسين مفهومك الذاتي عن نفسك وهي:
- أولًا: الإقرار والاعتراف بضرورة التغيير.
قبل أن تبدأ العمل من خلال هذه الاقتراحات، من الضروري أن يكون أول شيء تفعله هو إبرام عقد شخصي يمنحك الضوء الأخضر لبدء عملية التغيير في حياتك. بمعنى يجب أن تعترف وتقر بما يلي:
- الاعتراف بضرورة إجراء التغييرات. إذا كنت غير قادر على الاعتراف بوجود خطأ ما، فلا فائدة من المضي قدمًا في هذه العملية.
- تحمل المسؤولية. يجب عليك أن تتحمل مسؤولية إجراء هذه التغييرات. لا أحد مسؤول عن حياتك غيرك أنت. بدونك لا يمكن القيام بذلك، لذا يجب أن تتحمل المسؤولية الكاملة على عاتقك بأنك وحدك مسؤول عن إجراء هذه التغييرات.
- الالتزام. يجب عليك أن تلتزم بإجراء التغييرات اللازمة لتحسين حياتك. بدون التزام، لا يوجد دافع، وبدون الدافع، لا يوجد تغيير لذلك، أنت بحاجة إلى الإقرار بأن الأشياء يجب أن تتغير، وعليك أن تتحمل مسؤولية هذا التغيير، وعليك أن تلتزم بمتابعة تنفيذه حتى تتحقق أهدافك.
بمجرد تحديد كل هذه النقاط الثلاثة، ستكون جاهزًا لاتخاذ الخطوة الأولى في رحلتك نحو مفهوم ذاتي أكثر صحة.
- ثانيًا: اكتشف من أنت ثم سد الفجوة بين ذاتك المثالية والذات التي أنت عليها الأن.
الخطوة التالية لتحويل مفهومك لذاتك هي اكتشاف من أنت. قد تعتقد بأنك مُدرك لذاتك وتعرف من أنت بالفعل، ولكن هذا غير صحيح، لأنك تعرف فقط الأشياء والأمور السطحية عن ذاتك، أما في العمق، أنت في الواقع أكثر من ذلك بكثير.
لذا، فإن السؤال هنا، هل تعرف بصدق من أنت حقًا؟
كل ما يجب عليك فعله في هذه الخطوة هو تحديد الفجوة بين المكانة التي أنت عليها الأن، والمكانة التي تريد أن تكون عليها في المستقبل، بمعنى تحديد "من أنت الأن" و"من تسعى إلى أن تكونه في المستقبل".
لتعزيز مفهومك الذاتي، يجب عليك معرفة كيفية سد هذه الفجوة بنجاح. لذا يجب عليك بشكل أساسي دمج ما أنت عليه الأن مع ما تريد أن تكونه في المستقبل.
ولكن هذا لن يكون سهلًا. في الواقع، سيكون هناك دائمًا نوع من التناقض. وهذا أمر مهم لفهمه لأنه بدون تناقض لا يوجد دافع نفسي للنمو وتطوير ذاتك بمرور الوقت.
ومع ذلك، إذا كان هناك تناقض كبير جدًا بين ما أنت عليه اليوم وبين ما ترغب في أن تكون عليه في المستقبل، فلن يتحسن مفهومك الذاتي أبدًا في إمكاناته الكاملة. لذا يجب أن يكون هناك تطابق، وإلا فإن تحقيق الذات سيكون مستحيل.
مع وضع ذلك في الاعتبار، حاول الإجابة على الأسئلة التالية:
- من أنا حقًا؟
- من أنا جسديًا؟
- من أنا اجتماعيًا؟
- من أنا عاطفيًا؟
- من أنا روحيًا؟
- من أنا من حيث إنجازاتي ونقاط القوة والضعف لدي؟
- من أنا من حيث اخفاقاتي وأخطائي؟
- من أنا من حيث مواهبي ومهاراتي وأهدافي؟
- من أنا من حيث دوري في المجتمع؟
الغرض من هذه الأسئلة هو تحديد الكيفية التي ترى بها نفسك في الوقت الحاضر، ثم مقارنة ذلك بالمجموعة النهائية من الأسئلة الموضحة أدناه. تركز المجموعة الأخيرة من الأسئلة على نوع الشخص الذي تسعى إلى أن تكون عليه مستقبلًا (ذاتك المثالية).
أثناء استعراض كل سؤال، سوف تكتسب رؤى جديدة ووجهات نظر مختلفة حول هويتك. وهذا جيد تمامًا. احتضن هذه الاختلافات وتقبلها، لأن هذا في الأساس هي صورتك الذاتية التي ترى بها نفسك.
الأمر الأكثر صلة هنا هو ما إذا كانت هذه الإجابات متطابقة مع الإجابات التي تقدمها الأسئلة التالية:
- ما هي ذاتي المثالية التي أريد أن أكون عليها في المستقبل؟
- كيف أرى نفسي في المستقبل؟
- أي نوع من الأشخاص أريد أكون؟
- ما هي أنواع الصفات التي يجب أن امتلاكها؟
- كيف ستكون طريقة تفكيري؟
- ما نوع المشاعر التي سأشعر بها عند تحقيق ذاتي المثالية التي أريد أن أكون عليها؟
- ما نوع العادات والخبرات التي سأمر بها كل يوم؟
- ما نوع الأهداف التي سوف أرغب في تحقيقها؟
يجب أن تكون ذاتك المثالية متوافقة مع ذاتك في اللحظة الحالية.
إذا كان هناك فرق كبير بين الاثنين، فيجب عليك العمل على سد هذه الفجوة - لكي تتمكن من تعزيز مفهومك الذاتي.
دعنا الآن نلقي نظرة فاحصة على هذه الفجوة. اسأل نفسك:
- ما هي الفجوة بين ذاتي المدركة وبين ذاتي المثالية؟
- اين الفجوة الأكثر أهمية؟
- اين الفجوة ليست كبيرة جدًا؟
- هل المسافة بين الفجوة واقعية؟
- كيف يمكنني البدء في سد هذه الفجوات بدءًا من اليوم؟
هدفك لبقية هذه الرحلة هو البدء في سد تلك الفجوات بين نفسك المثالية والذات التي تعيشها الأن.
كلما كانت هذه "الذات" أكثر انسجامًا، كلما أصبح مفهومك لذاتك أقوى وأكثر صحة.
قبل الانتقال، هناك مجموعة من النقاط التحذيرية التي يجب أن تنتبه لها وهي:
- 1- يجب أن يكون نموذجك الذاتي الذي ترغب في أن تكون عليه واقعيًا وقابل للتحقيق. خلاف ذلك، سوف تكافح من أجل تلبية الكمال وتحقيق أعلى معايير الأداء الخاصة بك. بعد ذلك، سيستمر مفهومك الذاتي في المعاناة
- مفتاح الحل هنا هو التأكد من أن مثلك الذاتي ليس خارجًا تمامًا عن هذا العالم، وذلك من خلال التأكد من خفض معاييرك وتوقعاتك وجعلها أكثر قابلية للتحقيق. ولكن عندما تصل إلى هذه المعايير والتوقعات المحددة، يجب أن ترفع المستوى بشكل تدريجي بمرور الوقت.
- 2- تذكر أن صورتك الذاتية غالبًا لا تستند إلى الواقع، ولكن تعتمد على طريقة تفسيرك للواقع، إذا كانت صورتك الذاتية تستند إلى افتراضات خاطئة أو وجهات نظر مشوهة، فستحتاج أولًا إلى التعامل مع هذه المشكلات قبل الانتقال إلى العملية الموضحة في الجزء الثاني من هذا المقال.
أما إذا كانت لديك صورة ذاتية صحية عن ذاتك فيمكنك الانتقال إلى المقال الذي تحدثنا فيه عن كيف تحسن مفهومك لذاتك.