العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية في الإدراك
العوامل المؤثرة على الإدراك |
طرح المشكلة:
تعتبر عملية الإدراك أحدى أهم العمليات النفسية التي يستعين بها الإنسان لمعرفة العالم الخارجي والتكيف معه، باعتباره عملية مكملة لدور الإحساس ومتجاوزة له في الوقت نفسه، لما يقوم به من تنظيم لـ احساساتنا الواردة من العالم الخارجي وتفسيرها، فهو عملية عقلية معقدة تتداخل فيها مختلف القدرات الذهنية للإنسان.
الإدراك هو عملية عقلية يتم من خلالها تأويل وتفسير المثيرات وصياغتها على نحو يمكن فهمها، ومن ثم الخروج بتصور أو حكم أو قرار. إلا أن عملية الإدراك تختلف من إنسان لآخر نظرًا لوجود عدد من العوامل والشروط التي تحكمها، وهذا ما مثل محور جدل واختلاف بين الفلاسفة والمفكرين، البعض منهم رأى أن الإدراك نشاط ذاتي يخضع لعوامل ذاتية متعلقة بالشخص المدرك، والبعض الآخر أرجعه إلى عوامل موضوعية متعلقة ببنية الموضوع المدرك.
هذا الجدال الواقع بينهم يدفعنا إلى طرح السؤال التالي، هل الإدراك يخضع لعوامل ذاتية أم موضوعية؟ وهو ما سنتحدث عنه في هذه المقالة.
هل الإدراك يخضع لعوامل ذاتية أم عوامل موضوعية
هناك بعض العوامل في الأشياء وكذلك في الفرد نفسه والتي يمكن أن تؤثر على عملية الإدراك. تنقسم هذه العوامل التي تحدد إدراكنا إلى نوعين هما:
- العوامل الذاتية، هذه العوامل تشير إلى الأفراد وهي متأصلة فيهم.
- العوامل الموضوعية، هذه العوامل تتعلق بجوانب معينة من الأشياء وتكون متأصلة فيها.
محاولة حل المشكلة:
الموقف الأول : الإدراك يعود لعوامل ذاتية
يرى أنصار هذه الموقف من بينهم (ديكارت، وباركلي، وحون لوك، وآلان) أن عملية الإدراك تتوقف في مجملها على العوامل الذاتية المتعلقة منها بالحالة العقلية والنفسية والجسدية كالتخيل، والذاكرة والانتباه والذكاء وغيرها، وهي عوامل يمكن من خلالها تفسير التباين الحاصل على مستوى إدراكات الأشخاص للموقف الواحد.
أكد أنصار هذا الموقف أن الإدراك عملية عقلية ذاتية لا دخل للموضوع المدرك فيها، حيث إن إدراك الشيء ذي أبعاد يتم بواسطة أحكام عقلية نصدرها عند تفسير المعطيات الحسية، لذلك فالإدراك نشاط عقلي تساهم فيه عوامل ووظائف عقلية عليا.
بمعنى أن الادراك يعود إلى الذات المُدركة لا إلى الشيء المدرك، وعملية الإدراك تتجلى في التأثير المتبادل بين الذات والموضوع أي بين الشعور وموضوع الشعور، وإذا كان الشعور يتميّز بالاستمرار والتغيير فإنّ إدراكنا للأشياء الخارجية لا بدَّ أن يتغير بتغير شعورنا؛ معنى هذا أنّ إدراكنا لأيّ شيء يختلف باختلاف أحوالنا وظروفنا وموقفنا.
إذن، الشعور هنا هو الذي يبني وينظم عملية الإدراك، وبالتالي فإن الإدراك حسبهم يتمّ وفق مبدأي الشعور والعالم الخارجي حيث إن الشعور متغير والعالم الخارجي ثابت.
العوامل الذاتية التي تؤثر في الإدراك :
- الخبرة، فنحن ندرك الأشياء في ضوء ما مر بنا من تجارب، ويترتب على ذلك أنه كلما كانت الأشياء التي تدركها في الوقت الراهن تقع في إطار خبرتنا السابقة يسهل علينا إدراكها.
- الميول والرغبات والإرادة فالإنسان يدرك بسرعة الأمور التي تتوافق مع ميولاته ورغباته.
- القدرات العقلية، كالذكاء والتخيل وقوة الذاكرة، فالشخص الذي يملك ذاكرة قوية يدرك أو يتذكر قبل الشخص الذي يملك ذاكرة ضعيفة، والأكثر ذكاء يدرك قبل الأقل ذكاء.
- الحالة النفسية والجسدية وما يرتبط بهما.
- الانتباه والتركيز.
النقد: صحيح أن للعوامل الذاتية دورًا في عملية الادراك ولكن الاقتصار على هذه العوامل وحدها لا يكفي، فالعقل وحده لا يؤدي إلى الادراك، كما أن بعض الأشياء من الصعب إدراكها على الرغم من توفر كل العوامل الذاتية.
الموقف الثاني : الإدراك يعود لعوامل موضوعية
يعتقد أنصار النظرية الجشطالتية أمثال: (كوهلر، وكوفكا، بول غيوم، وفيرتيمر، وبول غيوم) أن الإدراك مرتبط بالشيء المدرك ولا علاقة له بالذات المدركة. انطلقت هذه النظرية من نقد النظرية الحسية ورفضت التمييز بين الإحساس والإدراك، وقالت أن الإدراك هو الإحساس، والإحساس هو الإدراك، والإنسان يحس عندما يدرك، ويدرك عندما يحس.
الفكرة الأساسية لهذه النظرية هي أن الأنساق الذهنية ليست أبدا مكونة من تأليف أو اجتماع عناصر معطاة في حالة انعزال قبل اجتماعها؛ بل هي دائمًا جُمل منتظمة منذ البداية في صورة أو بنية شاملة، أو الجزء لا يعرف معناه إلا في إطار الكل، فالمثلث مثلًا لا يتألف من ثلاثة أضلاع أو ثلاثة زوايا كما هو معروف، وإنما يتألف من العلاقات التي تنظم هذه الأجزاء، لأننا لا ندرك المثلث من مجرد رؤية ثلاث خطوط منفصلة، أو ثلاثة زوايا متفرقة، وكذلك الغضب لا يوجد في العينين أو الشفتين فقط، بل في الوجه ككل، ومنها فإن العلاقة العامة أو الصيغة الكلّية هي أساس الإدراك، وطبيعة الشيء المدرك هي التي تحدد درجة إدراكنا، فإدراك الأشياء عملية موضوعية وليس وليد أحكام عقلية تصدرها الذات، فالعالم الخارجي منظم وفق عوامل موضوعية وقوانين معينة تسمى "قوانين الانتظام"، وهذه القوانين هي:
- قانون البروز : أي أنه كلما كان الشيء المدرك بارزًا كلما سهل علينا إدراكه، فلا يمكننا إدراك قطعة قطن في الثلج لتشابه اللونين، وكذلك الإنسان عند دخوله لمدينة ما يستطيع إدراك البنايات المرتفعة قبل غيرها.
- قانون الانتظام : والمقصود به أنه كلما كانت الأشياء منتظمة سهل علينا إدراكها، فهناك فرق بين مكتبة وغرفة بها كتب.
- قانون التشابه : ومعناه أن الأشياء المتشابهة في الحجم والشكل واللون نميل إلى إدراكها كصيغ متميزة عن غيرها.
- قانون التقارب : فالأشياء المتجاوزة أو المتقاربة في الزمان والمكان يسهل علينا إدراكها كصيغة متكاملة.
- قانون الاستمرار : الأشياء المتصلة مثل النقاط الّتي تصل بينها خطوط ندركها كصيغ وهذا خلاف الأشياء المفردة الّتي لا تربطها علاقة بغيرها.
- قانون الإغلاق : ومعناه أن الإنسان في إدراكاته يميل إلى سد الثغرات أو النقائص أو التغاضي عنها.
النقد : بالغت هذه النظرية حيث لم تميّز بين الإحساس والإدراك فالأوّل يشترك فيه الحيوان مع الأشياء، والثاني مقتصر على الإنسان فقط كما أن هذه النظرية أهملت الذات الإنسانية وجعلت منه آلة تصوير أو جهاز استقبال فقط.
التركيب : بما أن الإدراك عملية إنسانية فهو يتأثر بعوامل كثيرة منها ما يرتبط بطبيعة الشخص المدرك، ومنها ما يرتبط بطبيعة الشيء المُدرك، ولا يمكن أن يتم الإدراك إلا من خلال تحالف الشروط الذاتية والشروط الموضوعية وهذا ما ذهبت إليه النظرية الظواهرية التي ترى أن الإدراك هو عملية متعددة الأبعاد فهو قائم على التفاعل بين عوامل ذاتية وموضوعية في آن واحد.
- ذات صلة: مقالة جدلية حول الإحساس والإدراك
حل المشكلة : أخيرًا نستنتج أن الادراك من الوظائف شديدة التعقيد. وهو عملية تساهم فيها جملة من العوامل بعضها يعود إلى نشاط الذات، والبعض الآخر إلى بنية الموضوع، على اعتبار أن هناك تفاعل حيوي بين الذات والموضوع. فكل إدراك هو إدراك لموضوع، ولكن على أن يكون لهذا الموضوع خصائص تساعد على إدراكه، فـ الإدراك لا يعود إلى فاعلية الذات فقط، أو إلى بنية الموضوع فحسب، وهذا من حيث إنه لا وجود لإدراك بدون موضوع ندركه، لذلك يمكننا القول أن الإدراك يعود إلى تفاعل مزدوج ودائم بين العوامل الذاتية والموضوعية.
- ذات صلة: هل مصدر المعرفة العقل أم الحواس بطريقة جدلية
- اقرأ أيضًا: مقالة الشعور بالانا والشعور بالغير