النظرية العقلية (الإدراك المجرد)
النظرية العقلية في الإدراك |
إن أكثر وجهة نظر طبيعية للإدراك هي أنها عملية نكتسب من خلالها المعرفة حول العالم الموضوعي. حيث نعتقد أن هذا العالم يتكون من أشياء وظواهر مادية توجد بشكل مستقل عنا وعن أفعالنا الإدراكية، وهي الأشياء التي ندركها بشكل عام. تنشأ المشاكل عندما نفكر في طبيعة تلك العملية وكيف يُفترض أن تُكتسب المعرفة.
الكثير من الفلاسفة وعلماء النفس قاموا بوضع العديد من النظريات التي تفسر لنا عملية الإدراك، في هذا المقال سنناقش واحدة من تلك النظريات وهي النظرية العقلية.
كيف فسرت النظرية العقلية عملية الإدراك؟
النظرية العقلية ترى أن الإدراك يتم بالعقل وليس بالحواس؛ لأن الإحساس لا يمدنا إلا بمعارف أولية تحتاج دائمًا إلى صقل وتجريد، أما العقل فإنه يمدنا بقضايا واضحة بذاتها وصادقة صدقًا كليًا.
الإحساس لا يقدم معرفة مجردة بل يُحفز ويثير العقل إلى التحقيق. على سبيل المثال، إذا كان هناك كتاب موجود فوق الطاولة فإننا لا نستطيع من خلال العين المجردة أن ندرك محتوى ومضمون ذلك الكتاب، لأن العين تعطي لنا معرفة أولية فقط لكن بمجرد استعمالنا القدرات العقلية نتوصل إلى معرفة مضمون ذلك الكتاب وبالتالي نصل إلى معرفة شمولية. لهذا فإن الإدراك يقتضي تعقل الشيء بواسطة البحث عن ماهيته.
يقول ديكارت: "إن جميع إدراكاتنا هي أحكام قبلية سابقة عن التجربة". ويقصد بذلك أن الإحساس يبقى بدون معنى إذا لم يتدخل العقل فيه، ويقول ديكارت أيضًا: "العقل أعدل قسمة بين الناس". وهذا دليل على أن الأشخاص لديهم عقل واحد فقط لكنهم يختلفون في طريقة استخدامه.
من جهة أخرى نجد أن ديكارت قد هاجم أولئك الذين يدعون أن الحواس هي مصدر الإدراك واتهمهم بالخداع من خلال تجربته من برج ايفل. علي سبيل المثال: نحن نرى النجوم في السماء تبدو صغيرة الحجم ولكن في الحقيقة هي كبيرة الحجم، لهذا لا نستطيع أن نثق بالحواس ولو لمرة واحدة.
النظرية العقلية في الفلسفة
يرى الفلاسفة العقليون ومن بينهم: "ديكارت" و"ألان" بأن العقل هو مصدر الإدراك، أي أن الإدراك نشاط عقلي غايته الاتصال بالعالم الخارجي ومعرفته.
في أطروحة ديكارت حول الإدراك الحسي أوضح أنه يمكننا استخدام حواسنا لمساعدتنا على فهم الطبيعة الحقيقية للأشياء، لكن الحواس وحدها ليست كافية لتحديد الحقيقة (لأنه غالبًا ما يتم خداعها)، وأن كل ما يمكن معرفته على وجه اليقين (الحقيقة) هو ما نعرفه من خلال حكمنا وتأملنا وفهمنا له في أذهاننا.
الأدلة والمبررات: فلاسفة النظرية العقلية في الإدراك اعتمدوا على مجموعة من الأدلة والحجج أهمها:
- التمييز بين الإحساس والإدراك، فالإحساس مرتبط بحواسنا وما نحس به هو مجرد ردود أفعال وتعبيرات ذاتية قائمة في الذات، أما الإدراك فإنه مرتبط بالعقل (امتداد خارج الذات).
- الإدراك ليس مجموعة من الإحساسات وإنما هو نشاط وبناء عقلي معقد تساهم فيه عمليات ووظائف عقلية عليا مثل: التخيل، والتذكر، والحكم، والتفسير، والتأويل، والتحليل، والاستنتاج. إدراكي للمكعب عندما أرى شكله فإنني أحكم عليه بأنه مكعب بالرغم من أنني لا أرى سوى ثلاثة سطوح في حين أن المكعب له ستة سطوح. يقول "ألان": "الشيء يدرك ولا يحس به". كما يقول "ديكارت"أيضًا: "إذن، أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني".
- الإحساس وحده لا يُحقق معرفة مجردة لأن المعرفة الحسية مهما كانت درجتها لا تبلغ مرتبة الإدراك فهي تبقى مجرد معرفة جزئية فقط لا غير.
- الإحساس حالة ووظيفة سلبية، قد تكون المعرفة الحسية خاطئة كما يؤكد ديكارت؛ لأنها تقتصر فقط على شهادة الحواس، كما أن الإحساس خاصية حيوانية فهو عام ومشترك بين الإنسان والحيوان والمعرفة فيه ظنية واحتمالية، قد تكون غامضة ولا تتجاوز ما يتوافر عند الحيوان، بينما الإدراك يقتضي تعقل الشيء. ومن هنا كانت الأشياء الخارجية امتدادات قابلة للإدراك العقلي.
- الإدراك فعل خاص بالعقل وتظهر فعاليته في مختلف الأحكام التي يُطلقها على الأشياء المادية والتي بموجبها يتم إدراكها ومعرفتها معرفة كاملة. يقول "ألان": "وجود الشيء قائم في إدراكي أنا له".
- العقل قدرة ذاتية تتجاوز المعطيات الحسية، أما الإحساس فما هو إلا آلية تُنبه العقل لحدوث الإدراك. يرى ديكارت: "أنه ما دام الإحساس مجرد حالة ذاتية غير ممتدة فإن إدراك شيء ممتد إنما يكون بواسطة أحكام عقلية تضفي على الشيء صفاته وكيفياته الحسية".
- يرى "ديكارت" أن المعرفة الموضوعية للأشياء هي أحكام عقلية وليست انطباعات حسية باعتبار أن الحواس غالبًا ما تخدعنا حيث تجعلنا نرى الأشياء على غير حقيقتها. على سبيل المثال، رؤيتنا للطائرة وهي تحلق في الفضاء تختلف عن رؤيتنا لها وهي جاثمة على أرضية المطار، وعليه فمن الحكمة يقول "ديكارت": "بأن لا نثق في الذي يخدعنا ولو مرة واحدة".
- مشاهدتنا من النافذة لرجال يسيرون في الشارع واطلاق حكمنا عليهم، كما يقول "ديكارت": "لا ترى العين المجردة في الواقع سوى قبعات ومعاطف متحركة ومع هذا حكمنا بأنهم أناس".
- من أنصار الاتجاه العقلي أيضا "ألان" الذي بين أن الأشياء لا تدرك بالحواس لأنها لا تبرز لنا سوى بُعدين فقط من أبعاد المكان أما البعد الثالث فهو عمل عقلي (مثال المكعب).
- لو استطاع الإحساس أن يقدم لنا معرفة لقدمها للحيوان لأنه هو الآخر يملك القدرة على الإحساس.
- إدراك الإنسان الراشد المكتمل العقل يختلف عن إدراك الصبي.
- يعتقد أنصار النظرية العقلية أيضًا أن إدراكاتنا المعرفية ليست كلها نابعة بالضرورة من الإحساس، بل الغالب في هذه الإدراكات أنها صادرة بصورة قبلية عن العقل وما وراء العقل (نظرية المثل لأفلاطون، الأفكار الفطرية لديكارت).
- يقول "ألان": "الشيء لا يحس وإنما يُعقل" إننا نحس بألوان وطعوم وروائح الأشياء لكننا ندرك بعقولنا الأشياء. ويستعمل "ألان" مثال المكعب حيث يبين أن رؤية جميع أوجهه دفعة واحدة مستحيلة ومع ذلك فإننا ندركه ككل وبكماله، وهذا يعني أننا لا نُدرك العالم مثلما نحس به. فلا تطابق بين الإحساس والإدراك، فنحن حينما نسمع أصواتا لا ندرك أصواتا فحسب بل نفسرها ونؤولها ونمنح لها دلالاتها الموضوعية الواقعية بالتعرف على الأشياء التي تحدثها مع تحديد مكانها وبعدها عنا بالتقريب.
- الطفل الرضيع مثلًا يرى ما نراه، ويسمع نفس الأصوات التي نسمعها ولكنه لا يُدرك ما نُدركه.
- أكثر ما يدعم نظرية العقليين هو مسألة إدراك المسافات. فـ المسافة علاقة مجردة وليست كيفية حسية مثل اللون أو الرائحة، ولذلك لا يمكن الإحساس بها بل يتم تقديرها وتحديدها بفضل أحكام واستنتاجات العقل وحده.
- نحن ندرك أن الشيء بعيدًا إذا ظهر في صورة صغيرة والعكس صحيح. وندرك أن شيئًا ما أقرب إلينا من شيء آخر، إذا كان الأول يغطي جزءًا من الثاني، مثال على ذلك: أن الأفق أكثر بعدًا من الأشجار التي نراها أمامنا لأنها تغطي جزءا منه.
اقرأ أيضًا: هل الإدراك يخضع لعوامل ذاتية أم موضوعية
نقد النظرية العقلية
تعرضت النظرية العقلية في الإدراك للنقد في عدة نقاط منها ما يلي:
- إرجاع الإدراك إلى العقل وحده ليس له ما يبرره في الواقع، باعتبار أن الإدراك الخالص للموضوع الخارجي لا وجود له، فكل إدراك يحمل في ثناياه بذورا حسية، وهذا يعني أن الإحساس هو الجسر الذي يعبره العقل في إدراك الأشياء.
- أنصار الاتجاه العقلي لم يصيبوا حين ميزوا بين الإحساس والإدراك وفصلوا بين وظيفة كل منهما في المعرفة. بدليل أن هذه الأخيرة أي المعرفة عند الطفل الصغير تبدأ بالجانب الحسي قبل العقلي التجريدي.
- الفلاسفة العقليون ركزوا على الذات المُدرِكة (العقل) وأهملوا الموضوع المُدرَك (العوامل الموضوعية الخارجية، عامل التنشئة والتربية الاجتماعية، العوامل الاقتصادية، العوامل النفسية كـ الشعور والميل والرغبة مثلًا).
- المعرفة العقلية ليست يقينية مطلقة واحدة وثابتة بل هي بدورها نسبية واحتمالية؛ لأن العقل قد يخطئ، بدليل تطور المعارف العقلية (الرياضيات مثلا) عبر العصور التاريخية.
- النظرية العقلية فَصلت فصلًا تعسفيًا بين الذات المُدرِكة والموضوع المُدرَك، كما أنها قللت من أهمية ودور الحواس في عملية الإدراك.
- ✍🏻 أ/ يزيد سكوب.
اقرأ أيضًا: العقلانية في الفلسفة