مقالة جدلية حول العولمة و التنوع الثقافي
العولمة |
هل العولمة ظاهرة إيجابية أم سلبية
طرح المشكلة: لقد شهدت البشرية في أواخر القرن العشرين العديد من التغيرات والتحولات على كافة الأصعدة، كل هذه المستجدات والتغيرات أحدثت انقلابا في موازين القوى العالمية، ولعل مصدرها كان ما يسمى بالعولمة، والتي تعني بالمفهوم العام توحيد العالم. وهي مشتقة من كلمة عالم وتعني تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل، أي جعل الشيء على مستوى عالمي من خلال الانتقال من سيادة الدولة القومية وحدودها إلى الكرة الأرضية جميعها، كما تعني تطور نظام السوق وما يتبعها من تطورات سياسية.
مفهوم العولمة إذن مفهوم حديث برز إلى الوجود بسبب تطور تدريجي مستمر، وهي نتاج للتقدم الهائل في وسائل الاتصالات والمواصلات والتقنيات، ومع تسارع التطورات والتغيرات على المستوى العالمي تحولت العولمة إلى ظاهرة فكرية فرضت نفسها على المفكرين، والفلاسفة، والسياسيين، والإعلاميين، وغيرهم الذين انقسموا إلى مؤيدين ومعارضين، فمنهم من يرى أن العولمة لها آثار إيجابية، ومنهم من يعتقد أن العولمة لها آثار سلبية، وتأسيسًا على هذا التناقض الموجود بين الطرفين يتمحور سؤال دارستنا فيما يلي: هل حقًا العولمة ظاهرة سلبية يجب محاربتها؟ أم أنها إيجابية لمن يستطيع التعامل والتكيف معها؟
محاولة حل المشكلة:
الموقف الأول: العولمة ظاهرة إيجابية
يرى فلاسفة الموقف الأول وهم أصحاب الاتجاه الليبرالي وخاصة (دافيد روكفيلر، وبرهان غليون) بأن العولمة كمشروع ثقافي وسياسي واقتصادي تحمل الأثر الإيجابي كونها تدعو إلى مسايرة التطور وتدعم الانفتاح العالمي في ظل القرية الكونية.
لقد اعتمدوا في تبرير موقفهم على مجموعة من الحجج والبراهين وهي كما يلي:
- من الناحية الاقتصادية: لقد فتحت العولمة أسواقا جديدة، ووسعت التجارة والخيارات الاقتصادية وحركة الاستثمارات الدولية والأسواق العالمية المفتوحة، وعززت النمو الاقتصادي، فقد سُمح للبلدان بالتخصص في المجالات التي تتمتع فيها بميزة نسبية، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية، وخلق فرص العمل، وتحسين البنية التحتية، وارتفاع مستويات المعيشة. يقول دافيد روكفيلر "إن العالم يكون في حالة جيدة لو كان محكومًا من طرف جماعة نخبوية تتألف من بنكيين".
- من الناحية السياسية: تلعب العولمة دورًا حيويًا في تشكيل العلاقات الدولية، وتعزيز حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وتوسيع القيم الديمقراطية، والتخفيف من حدة الصراعات، وتعزيز التعاون بين الدول وتمكين العمل الجماعي لمواجهة التحديات العالمية. كما أنها لعبت دورًا حاسمًا في تمكين المواطنين من تحدي الأنظمة الاستبدادية والمطالبة بالإصلاحات السياسية. فقد سهّل الوصول إلى الشبكات العالمية ومنصات التواصل الاجتماعي تنظيم الحركات الشعبية والدعوة لحقوق الإنسان والحكم الديمقراطي. من خلال تبني الأهمية السياسية للعولمة والعمل معًا، يمكن للدول الاستفادة من إمكاناتها لبناء عالم أكثر سلامًا وعدالة وازدهارًا.
- من الناحية الثقافية: أدى الترابط الذي عززته العولمة إلى تعزيز التبادل الثقافي، مما مكن الأفراد من التعلم من وجهات نظر وتجارب متنوعة. لقد عرّفت الناس على أفكار وأشكال فنية وتقاليد جديدة، مما أدى إلى إثراء المجتمعات بما ينمي فيها بعدها الحضاري والثقافي؛ وذلك من خلال وسائل الاتصال العالمية، مثل الفضائيات التلفزيونية، والإنترنت وغيرها من الوسائل التي ساهمت في تدفق المعارف والمعلومات. كما أنها قدمت للإنسان خدمات عظيمة وجليلة إذ أن العولمة عبارة عن إيديولوجية عالمية تسعى إلى تحقيق الكثير من الأهداف من بينها تعميق التأثير في الثقافات الإنسانية والسلوك الاجتماعي لإلغاء التمايزات المختلفة. يقول برهان غليون: "إن العولمة تحقق النمو الثقافي للمجتمعات لأن التدفق الذي توفره على مستوى المعلومات والأفكار يقدم لكل فرد على سطح الكرة الأرضية فرصًا استثنائية للتقدم والازدهار المادي والنفسي". بمعنى أنها تسعى لتعميم وسائل الاتصال وجعل الفرد جزءًا من منظومة عالمية للاتصالات من خلال تشجيع استثمار القطاع الإلكتروني بواسطة مؤسسات كبرى متعددة الجنسيات. كما يقول أيضًا برهان غليون: "العولمة ديناميكية جديدة تظهر داخل دائرة العلاقات الدولية وتحقق درجة عالية من الكثافة والسرعة في عملية انتشار المعلومات والمكتسبات التقنية". بمعنى أنها تسمح وتساعد على التبادل التجاري وبالتالي تحرر الإنسانية من الانعزال، أما بعدها المعلوماتي فيتجلى في تقليص أبعاد الزمان والمكان باستخدام الكمبيوتر والإنترنت وبالتالي يصبح العالم قرية صغيرة.
مناقشة ونقد:
بالرغم من كل هذه الإيجابيات التي حققتها العولمة في التعاملات وتبادل الثقافات؛ إلا أنها تؤدي إلى التفاوت الاقتصادي والتوزيع غير العادل للثروة، وتقويض السيادة الوطنية، واستغلال العمالة. كما أن الباحث بعمق في فلسفة العولمة وأفكارها وأهدافها يُدرك أنها اتجاه غايته الهيمنة والسيطرة على العالم، وجعله في نسق واحد من قبل الأقلية، وانطلاقًا من هذا المعنى تُعد العولمة خطرًا وشرًا كبيرًا، فهي تملك قدرة كبيرة في التغلغل والتأثير والاستحواذ على مقدرات الشعوب والحكومات.
الموقف الثاني: العولمة ظاهرة سلبية
يرى فلاسفة الموقف المعارض أمثال (غارودي، فوكوياما، صامويل) أن العولمة تُشكل خطرًا يهدد قيم المجتمعات وثقافات الشعوب؛ لأنها نوع من الاستعمار الجديد الذي يسعى إلى الهيمنة والسيطرة وخدمة المجتمعات الليبرالية وتهديد كيان المجتمعات الفقيرة. لقد اعتمدوا في تبرير موقفهم هذا على مجموعة من الحجج والبراهين وهي كما يلي:
- أولًا سلبياتها من الناحية الاقتصادية: التبادل الاقتصادي الحر يستفيد منه الأقوياء لكنه يسحق الضعفاء؛ لأنهم لا يقدرون على المنافسة الشرسة التي يفرضها الأقوياء في السوق العالمية، وبالتالي فإن التبادل التجاري الحر أحدث أضرارًا وأزمات مالية واجتماعية باقتصاديات الدول الضعيفة مثل بعض الدول الإفريقية ودول أمريكا اللاتينية التي انساقت وراء هذه الايدولوجيا إما اضطرارا أو طواعية واختبارا، ويمكن ملاحظة ذلك في إفلاس المؤسسات الاقتصادية المحلية وخصخصتها، وارتفاع مستوى البطالة جراء تسريح العمال واستخدام الآلة على نطاق واسع. حيث يقول المفكر الفرنسي غارودي: "إن التيار المهمين في صفوف الاقتصاديين الرأسماليين والسياسيين هو الدفاع عن الليبرالية بدون حدود، والداعي الى اختفاء الدولة أمام السلطة المطلقة للسوق، وحتى لا يبقى أي عائق أمام الاحتلال الاقتصادي". أي إنها عولمة مادية جشعة توجهها الليبرالية المتوحشة لذلك فهي لا تراعي الأبعاد الأخرى التي تميز الإنسان كالبعد الروحي والأخلاقي والمعرفي.
- ثانيًا من الناحية السياسية: العولمة تقوض الاستقلال الذاتي وسلطة اتخاذ القرار للدول الفردية. يمكن لاتفاقيات ومنظمات التجارة الدولية أن تفرض قيودًا على السياسات المحلية، مما يحد من قدرة الدولة على حماية صناعاتها، أو تنظيم الأسواق، أو تنفيذ السياسات التي تصب في مصلحة مواطنيها. كما أن الدول الكبرى تتظاهر بنشر الديمقراطية ورعايتها لحقوق الإنسان إلا أنها في الواقع تؤيد أبشع أنواع الحكم التسلطي، كما أنها تفرض أشد العقوبات على الدول التي تتمسك بسيادتها الوطنية. اذ يقول سمير أمين: "إن هذا النوع من العولمة لا يمكن أن ينتج أي نوع من السلام لأنه نظام قائم على الانفجار المستمر".
- ثالثًا من الناحية الثقافية: بينما تعمل العولمة على تعزيز التبادل الثقافي، فإنها يمكن أن تؤدي أيضًا إلى تآكل الهويات الثقافية التقليدية. إن هيمنة القيم الغربية، والنزعة الاستهلاكية، ووسائل الإعلام المعولمة، من الممكن أن تؤدي إلى تجانس الثقافات، وإضعاف التقاليد والعادات الفريدة. وهذا يمكن أن يقلل من التنوع الثقافي ويخلق شعورًا بالإمبريالية الثقافية. وفي إطار العولمة السلبية دائمًا نجدها عولمة ترتدي لباس الغزو الثقافي وطمس الانتماء والتدمير الأخلاقي في الأمم عبر أجهزة الاتصالات والتكنولوجيات المعلوماتية الحديثة لمحو الموروث الشعبي وافراغه من أصالته وانتماءاته والترويج لمغريات ثقافات أخرى.
مناقشة ونقد:
ليس من الحكمة الابتعاد عن الواقع والنظر إلى العولمة على أنها كلها سلبيات ومساوئ، بل يجب الاستفادة من كل مظاهر العولمة الاقتصادية والاجتماعية. فهي تحفيز النمو الاقتصادي والتنمية، وتعمل على تسهل تدفق رأس المال والتكنولوجيا والمعرفة بين الدول، مما يسمح للبلدان بالاستفادة من الأسواق الجديدة والوصول إلى الموارد.
التركيب:
إن العولمة ظاهرة متعددة الأوجه تطرح فرصًا وتحديات على السواء، حيث يجب أخذ جوانبها الإيجابية والسلبية في الاعتبار. لذا ذهب الكثير من المفكرين والعلماء والفلاسفة إلى الاعتقاد أن مواجهة سلبيات العولمة يقتضي منا الاندماج فيها وذلك من خلال ما يلي:
- إحداث الدولة إصلاحات إدارية وسياسية كفيلة بحفظ سيادتها، وضمان علاقاتها وتوظيفها بما يخدم مصالحها الاجتماعية والثقافية والسياسية.
- رفع مستوى التأهيل لدى العمال خاصة اليد العاملة المتخصصة.
- خلق قاعدة علمية وجعل المنظومة التعليمية تواكب التطورات التكنولوجية والمعرفية مما يجعل الفرد قادرًا على الإبداع والإنتاج.
- تنسيق سيادة القانون لكي يشعر المواطن بالأمان في وطنه.
- تعزيز التكامل الإقليمي بين الدول ودعم الخدمات الحيوية، كالتعليم، والصحة وغيرها وذلك من خلال زيادة ضريبة الدخل على أصحاب الأعمال.
ومن أجل الاستفادة الكاملة من فوائد العولمة، من الأهمية بمكان معالجة آثارها السلبية من خلال سياسات شاملة، وممارسات مستدامة، والتركيز على العدالة الاجتماعية. ومن خلال القيام بذلك، يمكننا أن نسعى جاهدين لخلق عالم أكثر إنصافًا واستدامة مُعولمًا.
الرأي الشخصي:
من وجهة نظري الشخصية أعتقد أن العولمة لها آثار سلبية، فهي عبارة عن إعصار مدمر يهدد التنوع والتعدد الثقافي والاقتصادي والسياسي الذي يحفظ لكل أمة خصوصياتها القومية والمحلية. لهذا يقول هارولد كليمانطا في كتابه "أكاذيب العولمة العشر": (إن العولمة تنفلت من المراقبة، فهي لم تسقط من السماء كقضاء محتوم، إنها مقصودة وتتحكم فيها قيادة المنظمات الدولية، كصندوق النقد الدولي fmi، والمنظمة العالمية للتجارة omc).
يُفهم من هذا أن العولمة ليست قضاءً محتومًا لابد منه، بل هي مجرد سياسة اقتصادية وإيديولوجيا مقصودة تحكمها وتوجهها منظمات دولية عالمية لها هيمنتها وسيطرتها على الاقتصاد العالمي وسياسته.
حل المشكلة:
بناءً على ما سبق، نستنتج أن الاندماج في العولمة بكيفية سلمية يقتضي تخطيطًا محكمًا يسمح بالاستفادة من إيجابياتها وتفادي سلبياتها. حيث يجب على الأمم أن تُغلب القيم والمفاهيم التي تنمي الروح الوطنية وتحترم التعددية الثقافية بامتلاكها وعيًا وسلوكًا جديدين، وذلك بترقية القيم الوطنية إلى مستوى العالمية من خلال محافظتها على خصوصياتها المعبرة عن هويتها، ومشاركتها في صنع الحضارة بالإبداع في جميع المجالات، ومواكبتها وتفاعلها مع العصر الذي تنتمي إليه تفاعلًا واعيًا ومدروسًا يحافظ على مميزات الأمة وخصوصياتها من جهة، ويساعدها على الارتقاء بين الأمم بعيدًا عن العزلة والتقوقع والتهميش والتطرف والتخلف من جهة أخرى.
- ذات صلة: ايجابيات وسلبيات العولمة
- اقرأ أيضًا: مقالة مقارنة بين العلم والفلسفة