مقالة جدلية الشعور بالأنا والشعور بالغير
مقالة الشعور بالانا والشعور بالغير |
الشعور بالأنا والشعور بالغير ، الطريقة جدلية، بقلم الأستاذ: مراد عمران
السؤال: هل أساس معرفة الذات قائم على الوعي أم على المغايرة والتناقض؟
هل معرفة الإنسان لـ أناه تحصل بالشعور (الوعي) أم تقتضي وجود الأخر؟
مقالة جدلية حول الشعور بالانا والشعور بالغير
طرح المشكلة:
الإنسان كائن مدني بطبعه وهذا يقتضي منه ضرورة التعايش الاجتماعي وتشكيل مجموعة من العلاقات قد تكون إيجابية (تجاذب)، أو سلبية (تنافر). وكل فرد يسعى للتعبير عن ذاته وإثبات وجودها داخل المجتمع، ولما كانت "الذات" هي النفس أو الجوهر الثابت القائم بذاته، فإن "الغير" هو الآخر المختلف عن الذات والمستقل عنها، وهذا ما أثار مشكلة فلسفية تتعلق بـ أساس معرفة الذات التي دار حولها تناقضًا واختلافًا بين الفلاسفة والمفكرين، فهناك من يرى بأن أساس معرفة الذات يتأسس على الوعي، وهناك من يرى على النقيض بأن معرفة الذات تتأسس على الغير (المغايرة) والتناقض، ومن هذا الاختلاف نطرح السؤال التالي: هل يعتبر الوعي أساس معرفة الذات؟ بعبارة أخرى: هل وعي الذات بذاتها متوقف على المغايرة والتناقص دائمًا؟
محاولة حل المشكلة:
الأطروحة: معرفة الذات تتوقف على وجود الوعي
يرى أنصار هذا الموقف الذي يمثله أصحاب الاتجاه الحدسي ومن بينهم (سقراط، ديكارت، بيران، هوسرل. الخ) أن معرفة الذات تتأسس على الوعي لأن الشعور بالذات هو لحظة واعية وتأملية فلا يمكن لأحد أن ينكر أنه لا يعرف ما يفعل، أو لا يعي ما يقوم به لأن كل ذات تعي ذاتها، لأن الوعي هو الذي يعبر عن حقيقة الذات.
- الوعي يعتبر ميزة جوهرية في الذات، وهو الأساس الذي تتوقف عليه معرفة الذات لذاتها، وهو المصاحب لها طيلة وجودها، وأي غياب للوعي يعتبر غياب للذات أو الأنا، وانعدامها، وكما يقول سقراط : "أعرف نفسك بنفسك".
- رونيه ديكارت: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" مما يعني أن الذات أو الأنا تتميز بالتفكير الذاتي، وهذه الذات لا تنقطع عن التفكير (الوعي) إلا إذا انعدم وجودها، فكما يقول: "فالشعور هو الذي به أعلم أنني موجود، وأن الغير موجود، وأن العالم موجود".
- دي بيران: "قبل أي شعور بالشيء فلا بد من أن الذات وجود".
- ضرورة وجود الذات الواعية أولًا قبل وجود الغير.
- الغير ليس شرطا ضروريا في معرفة الذات.
- إدموند هوسرل: إن الذات يجب أن تكون واعية لذاتها حتى يمكنها وعي الأشياء والموضوعات، وفي هذا السياق يقول: "أن الشعور هو دائما شعور بشيء ما".
النقد: صحيح ما جاء به أنصار هذا الطرح أن معرفة الذات تتوقف على الوعي لكن تأسيس معرفة الذات من خلال الوعي، قد يؤدي بالذات إلى نوع من المبالغة والتضخيم والانطواء وفصل الذات عن الغير، كما أن الوعي قد يكون مجرد انطباعات وأحكام خاطئة لا تعبر عن حقيقة الأنا الفردية، لأنه من الممكن التعرف على إنسان مريض نفسيا، لكنه يعتقد أنه شخصية سوية، مما يعني أن الذات لا تشاهد ذاتها بذاتها، بل تحتاج إلى الغير.
نقيض الأطروحة: معرفة الذات تتوقف على وجود الغير
يرى بعض الفلاسفة وعلى رأسهم (جورج باركلي، فريدريك هيجل، سارتر) أن أساس معرفة الذات تتوقف على المغايرة والتناقض (الغير).
- وجود الذات متعلق بالآخرين، فالغير شرط ضروري لكي تعي الذات ذاتها.
- جورج باركلي: أساس التعرف على الذات يتحدد من خلال الغير، لأنه يشاركنا في هذه الحياة تجاذبا (حوار وتسامح)، مما يؤدي بالذات إلى مقارنة نفسها بالآخر لاستنتاج التمايز والاختلاف بين "الأنا" و" الغير"، أي عن طريق المقارنة بين افعال وانفعالات (المشاعر والعواطف) الذات مع سلوكيات وانفعالات الغير.
- الغير قد يكون سببًا في تنمية وعي الذات لذاتها، كما أن "الأنا" ليس منغلقًا على نفسه بل يعيش مع الغير لأن الإنسان اجتماعي بطبعه كما يرى ابن خلدون، وهذا يقتضي التفاعل معه، والاعتراف به كآخر مغاير لنا، وبالتالي فالغير والذات تربط بينهما علاقات اجتماعية قائمة على التسامح والمشاركة.
- سارتر: الآخر شرط ضروري ومقوم أساسي في معرفة الذات من خلال قوله: "إن الآخر ليس شرطًا لوجودي فقط؛ بل هو أيضًا شرطًا للمعرفة التي أكونها عن نفسي".
- فريدريك هيجل: إدراك حقيقة الذات ومعرفتها قائم على العلاقة الجدلية والتناقض بين الأنا والآخر (الذات والغير)، لأن كل موضوع عنده يعتمد على نقيضه ثم الجمع بينهما، أي الفكرة ثم نقيض الفكرة ثم المركب بينهما مما يعني أن الشعور بالأنا يقابله الشعور بالغير، وعندئذ سيتغلب أحدهما على الآخر بالضرورة من خلال الصراع القائم بينهما، وهذا ما يجعل كل منهما يحاول أن يفرض نفسه على الآخر، كعلاقة التناقض بين السيد والعبد، فكلاهما يحاول إدراك حقيقة نفسه وذاته، فالعبد يخدم السيد، والسيد يخدم العبد، ومن هنا فكلاهما يُدرك حقيقة نفسه، وقيمة ذاته، وإثبات وجوده أمام الآخر باعتماد الصراع بكل أنواعه، وبالتالي فمعرفة الذات تتأسس من خلال الغير.
- الذات تتفاعل مع الغير عن طريق التواصل.
النقد: حقًا ما جاء به أنصار هذا الطرح أن معرفة الذات تتوقف على الغير لكن تأسيس معرفة الذات من خلال المغايرة والتناقض قد تؤدي إلى ربط الأنا بالغير ودمجها معه، وهذا نفي وإقصاء للذات المستقلة والفردية المتميزة، ضف إلى ذلك أن الغير قد يُشكل عائقًا حقيقيًا أمام الذات في معرفة ذاتها من خلال الوعي.
التركيب: بالتركيب الفلسفي الصحيح نتوصل إلى أن أساس معرفة الذات يتوقف ويتأسس على الوعي الفردي من جهة، وعلى المغايرة والتناقض من جهة أخرى، مما يعني أن معرفة الذات قائم على الوعي بالذات والغير معًا، لأن شعور الذات بذاتها إثبات لها، كما أن الغير يشكل وجودًا ضروريًا لترقية الشعور بالذات التي تعي ذاتها بواسطته كـ أنا وكـ وعيي، وعلى هذا الأساس فالشعور بالأنا يقابله الشعور بالغير.
حل المشكلة: من تحليلنا السابق نستنتج أن معرفة الذات تكون بين الأنا والغير معًا، هذا ما يجعلني أقول في الأخير: "أنني أفسر ذاتي بذاتي، لكن لا أستطيع أن أفصل ذاتي عن غيري".
- اقرأ أيضًا: مقالة حول علم النفس
- ذات صلة: مقالة المنطق الصوري