مقالة حول أصل المعرفة
أصل المعرفة |
هل أصل المعرفة العقل أم الحواس بطريقة جدلية
يعد مصدر المعرفة من القضايا الفلسفية الأكثر تعقيدًا وإثارة للجدل في تاريخ الفكر البشري. فمنذ القدم، حاول الفلاسفة والعلماء والمفكرون تفسير كيف يحصل الإنسان على المعرفة وتحديد مصدرها وسبيلها الأول، ولكنهم اختلفوا في تصور طبيعة المعرفة وأصلها، وظهرت العديد من النظريات التي تدل على تصورات مختلفة باختلاف المشارب المذهبية والمنطلقات الفلسفية للفلاسفة، فهناك من يرى أن أساس المعرفة ومصدرها الأول هو العقل، وهناك من يرى أن التجربة أو الحواس هي أساس بناء المعارف. هذا الاختلاف يجعلنا نطرح السؤال التالي: أيهما السبيل الصحيح للوصول إلى المعرفة، العقل أم الحواس؟
محاولة حل المشكلة:
الموقف الأول: أساس إدراكاتنا ومعارفنا هو العقل
يرى أنصار الموقف الأول وهم أنصار المذهب العقلاني أمثال: أفلاطون، ديكارت، آلان، … أن العقل هو السبيل للمعرفة اليقينية وأنه أساسها، اعتمد هؤلاء الفلاسفة في تبرير موقفهم على عدة حجج وبراهين قطعية تعتبر العقل هو المصدر الأول وجوهر الفكر ومبدأه، وأن جميع معارفنا تستمد وحدتها من العقل. تتمثل هذه الحجج والبراهين فيما يلي:
- اعتبر أفلاطون أن المعرفة والإدراك أساسه العقل ولا يمكن أن يكون الحواس ولذلك قسم أفلاطون العالم إلى قسمين عالم المثل وهو عالم حقيقي، ثابت، معارفه يقينية، ندرکه بالعقل، وعالم الحس وهو عالم متغير، وحسي، معارفه مزيفة، وقد شبهه أفلاطون بالظلال، والعقل عند أفلاطون كان يحيا في عالم المثل، ثم ارتبط بعالم الحس، فأصابه النسيان فهو الآن في مرحلة تذكر. يقول أفلاطون: "إن الحقيقة هي المثل وما المحسوسات إلا مظاهر لتلك المثل". ويقول أيضًا: "المعرفة تذكر والجهل نسيان".
- أما ديكارت فقد اعتبر أن العقل يحتوي بداخله على مبادئ فطرية سابقة عن التجربة الحسية، وتتميز هذه المبادئ بالبداهة والثبات واليقين، وأن الحواس كثيرًا ما تكون خادعة وتقع في الخطأ، مثال رؤية العصا منكسرة في الماء، ورؤية الأبراج والتماثيل من بعيد. يقول ديكارت: "لا تطمئن لمن يخدعك ولو لمرة واحدة وأني اختبرت الحواس فوجدتها خادعة". لذلك وضع دیكارت منهجًا عقليًا مستوحى من الرياضيات لبلوغ اليقين وسُمي بـ المنهج الشكي وخطواته هي ـ الشك، التحليل، التركيب، الإحصاء والمراجعة. يقول ديكارت: "إني أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني".
- أما آلان فقد اعتبر أن المعرفة الحسية قاصرة، واعتمد على مثال المكعب، حيث يرى أننا بالحواس لا يمكننا التوصل الى معرفة شكل المكعب معرفة كاملة بينما العقل هو الذي يقدم لنا معرفة متكاملة. يقول آلان: "الشيء يُدرك ولا يحس به".
النقد: صحيح أن للعقل دورًا في بناء المعرفة والإدراك، ولكن لا يمكن إهمال دور الحواس، كما أن نظرية أفلاطون ميتافيزيقية أكثر منها واقعية، والاعتقاد بوجود مبادئ فطرية يجعلنا نعترف أن الجميع يمتلك نفس المعرفة ولكن الواقع يثبت عكس ذلك.
الموقف الثاني: أساس ادراكاتنا ومعارفنا هي الحواس
يرى أنصار الموقف الثاني وهم أنصار المذهب الحسي التجريبي أمثال: جون لوك، دافيد هيوم، جون ستيوارت ميل، ... أن الحواس هي المبدأ الأساسي التي يجب أن نبني عليه معارفنا ومن خلال هذا تبرز أهمية الحواس في المعارف والأفكار اليقينية، ولتبرير موقفهم اعتمدوا على عدة حجج وبراهين تتمثل في الآتي:
- يرى الحسيون أن معارفنا تنبع كلها من الإحساس وبه تتحدد علاقتنا بالعالم الخارجي وأن العقل مجرد تلميذ يردد ما يقوله المعلم أي الحواس. يقول ستيوارت مل: "العقل صفحة بيضاء والتجربة ترسم عليه ما تشاء".
- المعرفة تكتسب بالتدريج عن طريق الاحتكاك بالعالم الخارجي وما تحدثه الأشياء من آثار حسية وبالتالي لا وجود لأفكار فطرية أو مبادئ قبلية سابقة عن التجربة، فالعقل صفحة بيضاء ومرآة عاكسة أو مستودع لهذه المحسوسات ووظيفته التخزين فقط. يقول جون لوك: "لنفرض أن النفس صفحة بيضاء فكيف تحصل على الأفكار؟ إني أجيب من التجربة ومنها نستمد مواد التفكير".
- من فقد حاسة من الحواس فقد المعاني المتعلقة بها مثل الأعمى لا يدرك الألوان، والأصم لا يدرك الأصوات ولذا فمن فقد حاسة من الحواس فقد علمًا من العلوم. يقول جون لوك: "لو سألت الإنسان متى بدأ يعرف لأجابك متى بدأ يحس".
- كما أن الحواس هي وسائلنا الوحيدة للتعرف على خصائص الأشياء وإدراك حقيقتها، مثال ذلك معرفتنا بخصائص السبورة أو البرتقالة أو الحرارة أو البرودة. يقول ديفيد هيوم: "الحواس هي الوسائل الوحيدة للمعرفة". ويقول جون لوك: "لا يوجد شيء في الذهن إلا وقد سبق وجوده في الحس".
النقد: صحيح أن للحواس دورًا في صناعة المعرفة والإدراك ولكن لا يمكننا الثقة فيها؛ لأنها تخدعنا وتزيف الحقائق ولا تنقلها كما هي، كما أنه لو كانت معارفنا وإدراكاتنا حسية لتساوى الحيوان معنا في اكتسابها.
التركيب: إن التناقض بين الموقفين أدى إلى ظهور موقف آخر يقف وسطًا بينهما وهو مذهب كانط النقدي الذي يجمع بين العقل والحواس، فالحواس تمد العقل بالمادة الأولية، والعقل يقوم بالتحليل والتركيب والاستنتاج فيصل إلى القوانين والحقائق. لذلك يقول كانط: "إن المعطيات الحسية بدون مفاهيم عقلية جوفاء، وإن المفاهيم العقلية بدون معطيات حسية عمياء".
حل المشكلة: نستنتج مما سبق أن أصل المعرفة وأصل الإدراك الحواس والعقل معًا، ولا يمكن الفصل بينهما فهما يكملان بعضهم البعض ولو نقص أحدهما نقصت واختلت عملية الإدراك.
- اقرأ يضًا: عوامل الإدراك الذاتية والموضوعية