مقالة جدلية حول اللغة والفكر
طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر |
مقالة اللغة والفكر جدلية
هل يمكن الفصل بين اللغة والفكر؟
هل كل ما نفكر فيه يمكن التعبير عنه؟
هل يمكن التفكير بدون لغة؟
طرح المشكلة: يمتلك الإنسان العديد من القدرات والخصائص والوظائف العقلية والنفسية التي تميزه عن غيره من الكائنات الحية وتساعده على إدراك العالم الخارجي والتكيف معه من بينها اللغة والفكر، حيث يميل عدد من الفلاسفة والمفكرين إلى تعريف اللغة بأنها ذلك النسق المنظم من الإشارات والرموز التي تصلح للتواصل بين بني البشر، حيث يعبر بها كل قوم عن أغراضهم. أما الفكر فهو مجموعة المعاني والتصورات والمعارف الإدراكية التي يحملها كل إنسان في ذهنه سواء عن ذاته أو عن محيطه الخارجي، وإذا كان الفلاسفة والعلماء متفقون عموما على مفهوم اللغة والفكر فإن آرائهم حول طبيعة العلاقة الموجودة بينهما اختلفت وتباينت، فمنهم من يرى بأن العلاقة بينهما هي علاقة انفصال باعتبارهما شيئين مختلفين، بينما يؤكد البعض الآخر بأن العلاقة بينهما هي علاقة اتصال باعتبارهما شيء واحد، وأمام هذا التباين والاختلاف في الآراء حق لنا طرح التساؤل التالي: هل هناك تطابق بين نظام الأفكار ونظام الكلمات؟ وهل كل ما نفكر فيه بالذهن يمكن التعبير عنه بالألفاظ؟ وبصيغة أخرى: هل اللغة والفكر منفصلان أم متصلان؟
محاولة حل المشكلة:
الأطروحة: يجب الفصل والتمييز بين اللغة والفكر ( الاتجاه الثنائي)
يرى أنصار الاتجاه الثنائي بزعامة الفيلسوف الفرنسي برغسون أنه يجب الفصل والتمييز بين اللغة والفكر، فاللغة وسيلة ينتجها الفكر تعيقه وتشوهه ولا تستطيع التعبير عنه، يقول برغسون: "اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر". حجتهم في ذلك أن الفكر أسبق من اللغة زمنيا بحيث أن الإنسان يفكر بعقله أولا ثم يعبر بلسانه ثانيا، كما أنه كثيرا ما تعجز اللغة عن التعبير عن أفكارنا ومشاعرنا وعواطفنا وانفعالاتنا خاصة بالنسبة للرومنسيين والمبدعين والفنانين فيلجئون إلى الرسم، والموسيقى، والتمثيل، والنحت للتعبير عن مشاعرهم وأفكارهم، يقول الشاعر الفرنسي فاليري: "يأتي الفن ليكمل ما تعجز عنه اللغة"، فـ التأمل العميق والشعور الحدسي الباطني يبقى تجربة ذاتية أصيلة يعيشها الفرد لوحده و تعجز اللغة عن نقلها للآخرين، لهذا قيل: "ما أرخص الحب حين يتحول إلى كلمات"، وهذا ما أكده الشاعر العربي نزار قباني بقوله: الحزن يا بلقيس يعصر مهجتي كالبرتقالة .. ولست أعرف مأزق الكلمات .. أنا الذي اخترع الرسائل .. لست أعرف كيف أبدأ الرسالة.
فاللغة غير قادرة على احتواء المعاني العميقة والمشاعر الدافئة والعواطف الجياشة، لذلك قيل: "إذا كانت كلماتي من ثلج فكيف تحتوي بداخلها النيران"، كما أن الأفكار متصلة في تطور مستمر بينما الألفاظ مركبة منفصلة جامدة محدودة، لهذا قيل: "الألفاظ قبور المعاني"، أي تؤدي إلى قتل الأفكار وتجميد حيويتها، يقول الشاعر الفرنسي فاليري: "أجمل الأفكار هي التي لا نستطيع التعبير عنها"، كما أن اللغة تشكل خطرا على الفكر أحيانا مثلما يحدث في حالة سوء التفاهم، فكثيرا ما يتوقف الخطيب أو الأستاذ عن الكلام لعجز الألفاظ عن التعبير عن أفكاره، ضف إلى ذلك التوقف أثناء الكتابة والتردد في التعبير وتعويض ألفاظ بأخرى دليل على عدم التناسب بين المعاني والألفاظ، وهذا ما أكده الفرنسي ديكارت أن اللغة تعيق الفكر ولا تستطيع التعبير عنه حيث يقول: "ألفاظ اللغة تضللني"، ويضيف أيضا: "الفكر سابق عن اللغة فهي الأداة التي يستعملها للخروج من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل وجعله مدركا من طرف الغير"، كما أنه لو سألنا الأدباء والشعراء كم استهلكو من الأوراق لكتابة قصصهم ومؤلفاتهم لوجدنا أن الأوراق التي رموها أكثر من تلك التي كتبوا عليها، يقول الفيلسوف الألماني شوبنهاور: "تموت الأفكار لحظة تجسيدها في كلمات"، فالعبارة تضيق حدود المعنى وتجعل الفكرة في أذهاننا تبدو أوسع وأجمل، يقول ديدرو: "أعتقد أننا نملك أفكارا أكثر مما نملك أصواتا"، ولقد أشار أفلاطون قديما إلى أسبقية الفكر عن اللغة أنطولوجيا (وجوديا)، وذلك أن الأفكار مصدرها عالم المثل في حين تنتمي الألفاظ إلى العالم الحسي، وبما أن العالم الأول أسبق من العالم الثاني فإن الفكر أسبق من اللغة و أوسع منها، كما أن الفكرة إذا قمنا بترجمتها من لغة إلى أخرى يختل معناها. لهذا قيل: "كل مترجم خائن"، مثل إيطالي، إضافة أن الطفل الصغير ترسخ في ذهنه الصور والأشكال اليدوية أكثر من الألفاظ والكلمات لهذا قيل: "الصورة خير من ألف كلمة"، مثل صيني، ونفس الموقف نجده عند الجاحظ بأن اللغة تقف عاجزة عن مسايرة زخم الأفكار، حيث يقول: "إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير نهاية وأسماء الألفاظ محدودة و معدودة"، ضف إلى ذلك أن الكلمات تأتي غير متوافقة ومتأخرة ففي ذروة الألم لا نملك غير الصياح فقط، ولا نتكلم عن الألم لنصفه أو بالأحرى لنصف ذكرياته ومخلفاته إلا بعد هدوئه و زواله، كما أن الأم لا تستطيع اللغة التعبير عن فرحتها بنجاح ابنها أو ابنتها حيث تنفعل وتلجأ إلى البكاء والدموع، يقول برغسون: "إن اللغة لا تقوى على وصف المعطيات المباشرة للحدس وصفا حيا، فهي لا تصف العواطف والمشاعر المرهفة إلا وصفا خارجيا"، فلو سألنا العشاق والمحبين عن اللغة فإنهم لن يترددوا في وصفها بالعاجزة طالما لا تبلغهم مرادهم، كما يؤكد الصوفية انهم يعيشون حالات وجدانية لا يمكن للألفاظ أن تعبر عنها ولا يمكن للكلمات أن تستوعب المعرفة الإشراقية والدرجة العرفانية، يقول المتصوف العربي الحلاج: "المعرفة ديمومة دائمة طرقها مسدودة ما إليها سبیل، معانيها بينة ما عليها دليل، لا تلحقها أوصاف الناس"، أي أن المعرفة الصوفية تتميز بالديمومة تتجلى كمعان واضحة حدسية بدون دليل ولكن لا يمكن وصفها بالكلمات.
النقد والمناقشة:
لقد بالغ أنصار الاتجاه الثنائي في تمجيد الفكر والتقليل من شأن اللغة لأن معطيات علم النفس الحديث أثبتت أن الطفل يتعلم اللغة والفكر في آن واحد، فـ الفكر بدون لغة مجرد شعور، كما أن العجز الذي توصف به اللغة هو عجز في التفكير لافتقار المتكلم للثروة اللغوية.
نقيض الأطروحة: لا يمكن الفصل والتمييز بين اللغة والفكر (الاتجاه الأحادي)
وهذا ما ذهب إليه أنصار الاتجاه الأحادي بأنه لا يمكن الفصل والتمييز بين اللغة والفكر؛ لأن هناك تطابقا تاما بينهما، فلا يمكن أن يوجد فكر بدون لغة كما لا توجد لغة من دون فكر، فاللغة ليست أداة للتبليغ والتعبير فحسب؛ بل هي الأساس الذي يقوم عليه الفكر، يقول ستالين: "لا وجود لأفكار عارية مستقلة عن مواد اللغة"، وهذا ما أكده لافيل بقوله: "ليست اللغة كما يعتقد البعض ثوب الفكر ولكن جسمه الحقيقي"، حجتهم في ذلك أنه كلما اتسعت ثروة الفرد اللغوية كلما زادت قدرته على التفكير والتبليغ والتعبير وأن وضوح الأفكار ناتج عن وضوح الألفاظ، يقول هاملتون: "الألفاظ حصون المعاني"، كما أن اللغة تصيغ الفكر بصبغة اجتماعية موضوعية تنقله من طابعه الانفعالي الذاتي ليصير خبرة إنسانية قابلة للتحليل، والفهم، والانتقال بين الناس، يقول هيجل: "اللغة وعاء الفكر"، ويضيف أيضا: "نحن نفكر داخل الكلمات"، حيث أثبت علم نفس الطفل أن تكوين المعاني عند الطفل يتم في نفس الوقت الذي يكتسب فيه اللغة، وأن نمو الفكر عنده مرتبط بنموه اللغوي، يقول الآن: "إن الطفل يكتشف أفكاره في العبارات التي يتعلمها"، حتى عندما نفكر فإن هذا التفكير حسب أنصار الاتجاه الأحادي يعتبر حوارا داخليا لا يمكن أن يكون ما لم تكن هناك لغة، كما أن الأستاذ يُقيم التلاميذ من خلال الواجبات والمشاركة في القسم؛ لأنه عندما يتكلم التلميذ يستطيع الأستاذ أن يقدر فكره وذكائه فالعلاقة وطيدة بين اللغة والفكر، يقول دولاكروا: "إن الفكر يصنع اللغة في نفس الوقت الذي يصنع فيه الفكر من طرف اللغة"، وهذا ما عبر عنه الأمريكي جون واطسون بقوله: "التفكير ما هو إلا ضرب من الكلام الصامت"، إذن هناك تلازم بين ما نفكر فيه وما نعبر عنه إذ يمكن تشبيه العلاقة بين اللغة والفكر بالقطعة النقدية وجهها الفكر وظهرها اللفظ، يقول المفكر العربي زكي نجيب محمود: "الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمز لا أكثر ولا أقل". كما أن الإصابات الدماغية تسبب العجز عن الكلام، فإصابة منطقة بروكا يؤدي إلى مرض الحبسة الحركية أي عدم القدرة على النطق وفقدان اللغة ومعانيها، مما يثبت صلة كل من الفكر واللغة واستحالة الفصل بينهما، يقول هيجل: "إن الكلمة تعطي للفكرة وجودها الأسمى والرغبة في التفكير بدون كلمات محاولة عديمة المعنى"، ونفس الموقف نجده لدى زعيم الفلسفة الظواهرية ميرلوبونتي بقوله: "الفكر لا يوجد خارج عن العالم وبمعزل عن الكلمات"، كما أكد أرسطو قديما أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة اتصال بحيث يمثلان وحدة عضوية كما أشار إلى ذلك في كتابه "الأورغانون" في مبحث الحدود والتصورات وكذا في مبحث القضايا والأحكام، حيث يقول: "ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية"، ولهذا سمى المسلمون قديما علم المنطق بـ علم الكلام السليم وهذا لـ تأكيدهم أن اللفظ والمعنى شيء واحد، فبفضل اللغة استطاع الإنسان القيام بمختلف العمليات العقلية مثل التحليل، التركيب، المقارنة، كما استطاع أن يرتقي من المستوى الحسي إلى المستوى العقلي المجرد ويكشف عن المعاني المجردة كما يبدو لنا ذلك في فلسفة الرياضيات، يقول إميل بنفنيست: "إن التفكير ليس من الداخل في شيء ولا وجود له خارج عالم الألفاظ"، وهذا ما أكدته جوليا كريستيفا بقولها: "اللغة مادة الفكر فهما متلازمان".
النقد:
لو كانت اللغة والفكر شيء واحد لاكتفينا بإحضار أحدهما دون الآخر، ولـ كانت أفكارنا ولغتنا واحدة، ولو كان الاتحاد بين اللغة والفكر مطلقا لوجدنا أنفسنا بين مشكلة هي إما أن تكون أفكارنا جامدة ثابتة لثبات الألفاظ، وإما أن تصبح اللغة متغيرة بتغير المعاني وهنا نفقد الإثنين معا.
التركيب:
من خلال طرحنا للموقفين المتعارضين يتضح لنا أننا لا نستطيع أن نفصل عمليا بين اللغة والفكر، ولا يوجد فاصل زمني بين عملية التفكير وعملية التعبير، فإذا كانت بينهما أسبقية فهي منطقية لا زمنية، وإن كان بينهما تمييز فهو نظري لا عملي، فالتفكير الخالص بدون لغة كـ الشعور الفارغ لا وجود له، فكل فكرة تتكون في قالب رموز يحتويها ويعطي لها وجودها المضمون وهذا ما عبر عنه هاملتون بقوله: "إن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب، فلا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ)، فالعلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة اتصال أكثر منها انفصال، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على ترجمة أفكاره ونقلها إلى غيره مع وعي هذا الفعل وما يقصد إليه، وإذا كانت اللغة خاصية إنسانية فهذا أكبر دليل على ارتباطها الوثيق بالفكر، وتميزها عن منطق الحيوان وأشكال التعبير الانفعالي.
حل المشكلة: من كل مما سبق نستنتج أن العلاقة بين اللغة والفكر هي علاقة تكاملية وطيدة فكلاهما يؤثر ويتأثر بالآخر، فبالرغم من أن الفكر هو عمل العقل الذي يحدث في الذهن وأن اللغة أصوات ورموز خارجية يتلفظ بها الإنسان، فإن العلاقة بينهما هي علاقة تكامل وتفاعل، فالفكر بالنسبة لـ اللغة كالروح بالنسبة للجسد، يقول دولاكروا: "نحن لا نفكر بصورة حسنة أو سيئة إلا لأن لغتنا مصنوعة صناعة حسنة أو سيئة". أي أنه يستحيل الفصل بينهما عمليا لأنهما يمثلان جوهر الإنسان والسبب الرئيسي في إخراجه من الحظيرة الحيوانية إلى الحظيرة الإنسانية.